أكتب هذا الموضوع ردًا على شُبهة سطحية لأحد المعارضين، لكن أقول أن هذا الرد في الواقع ليس ردًا على أساس الشبهة ─نظرًا لسطحيتها─ فما نرى لها من أساس أصلًا، ولكن لمّا قد رأينا أن مثل هذه الشبهة أنبتت في بنات الفكر لدينا عرضًا مُتحفًا لما تفضل الله به علينا من آيات ونِعم، وما قدمه التاريخ من مجريات، وما أبداه حضرة المسيح الموعود [عليه السلام] من بينات، فكان جديرًا بنا كأحمديين أن نُسجل كلمات في مثل هذا المقام.
~~~
قال المٌشتبِه: "هل سكت الله و لم يتكلم من بعد موت أو رفع المسيح إلى زمن بعثة سيدنا محمد؟"فكان ردنا: "بالطبع لا"فقال المُشتبِه: "ولكن الميرزا قال أن الله سكت، راجع البراهين" →[الشُبهة]فقلت: "لم يقل هذا وسآتي لك بالدليل من كل مكان ومن كلام حضرة مرزا غلام أحمد عليه السلام".
▬▬▬
[الرد]↓
يقول حضرة مرزا غلام أحمد صلى الله عليه وسلم: "أما اعتقادنا بانقطاع الوحي بعد النبي صلى الله عليه وسلم فالحق في ذلك أنه مع أن كلام الله غير محدود في حد ذاته، وحيث كانت المفاسد التي ينزل كلام الله لإصلاحها أو الحاجات التي يسدّها الوحي الإلهي محدودة، لذا فإن كلام الله تعالى نزل أيضًا بقدر حاجة بني آدم إليه." [البراهين الأحمدية، حاشية9، ص76، ط1─ 2013].
وفي ذلك أشار من قبل مولانا جلال الدين الرومي وقال: "لا نهاية للكلام ولكنه ينزل بحسب طاقة الطالب" وعقّب "وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم" [الحجر]. [كتاب فيه ما فيه، أحاديث مولانا جلال الدين الرومي، ترجمة عيسى علي العاكوب، الفصل السابع، ص64، دار الفكر المعاصر، بيروب ـ لبنان].ويقول الله في سورة النحل: "وما أرسلنا من قبلك إلا رجالًا نوحي إليهم فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون"
وأرجو من سيادتك أن تفهم كلمة "أرسلنا" في هذا المقام بنفس فهمكم لقوله عز وجل "وأرسلنا السماء عليهم مدرارًا.." فإرسال الرجال من قبل النبي محمد صلى الله عليه وسلم ─أي ما بين حضرته صلى الله عليه وسلم وبين حضرة المسيح الناصري─ كان بمثابة الكلام الإلهي المرسل إلى الدنيا لإنارة لها الطريق بقدر الإمكان كي لا تضل، وبالطبع كل هذا بدون أي إكراه على الهُدى أو الحق. لأن الله تعالى قال: "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا.." [يونس] فلم يكن هذا الإرسال معنيًا بإرسال أنبياء هنا لا سيما بعد عيسى، لكنه كان يوحي للناس بالهدى والنور بالقدر المطلوب، إذ لم يتفشى الخبث بشكل كامل ليستدعي نبي يُرسَل. وإن الآية تعني أيضًا أنبياء بني إسرائيل من قبل عيسى.
← ولما
قال ربنا جل شأنه: "فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" [النحل][الانبياء] رحنا نسأل ونستطلع ونستنتج، فوجدنا
أن الشرك المسيحي لم يتبلور تبلورًا تامًا إلا بعد حوالي ثلاثة أو أربعة
قرون من وفاة المسيح الناصري عيسى ابن مريم عليه السلام، حتى أن الإنجيل
الحالي لم يتم اعتماده كليًا ونهائيًا بالشكل الحالي إلا بعد هذه الفترة المذكورة. راجع
التالي: [الكتاب المقدس، ترجمة الرهبانية اليسوعية (جيزويت) "مدخل إلى
العهد الجديد" ص7 بعد صفحة 2030 أي بعد انتهاء صفحات العهد القديم. ط3
المطبعة الكاثوليكية]
وراجع أيضًا [كتاب← تاريخ الفكر المسيحي عند آباء الكنيسة، للمطران كيرلس سليم بسترس، الأب حنا الفاخوري، الأب جوزيف العبسي البولسي ─ عن منشورات المكتبة البوليسية] وهذا الكتاب الأخير لا يسعني أن
أحدد فيه جزئية بعينها كي تُقرأ، لأنه يجب أن يؤخذ كاملًا ويستخلص منه أن
النور الإلهي لم ينقطع فورًا بعد وفاة المسيح الناصري، إنما مر بفترات
إشعاع وخفوت تدريجي وصراع حتى انطفأ تمامًا في نهايات القرن الثالث وبداية
القرن الرابع الميلادي.
وإلى ذلك أشار المسيح الموعود الإمام المهدي حضرة مرزا غلام أحمد عليه الصلاة والسلام في كتابه العظيم "مرآة كمالات الإسلام" بداية من ص216 حيث قال: "والآن اسمع جيدًا معرفة أن المسيح عليه السلام واجه حالتين طلبت روحانيته شخصًا يقوم مقامه: أولًا حين مضت ست مئة سنة على وفاته..." وتباعًا حتى ص218 حيث قال: "ثم هاجت روحانية المسيح للمرة الثانية حين..." [ط1، 2014]
مما سبق نستنتج أن الكلام الإلهي مستمر في كل العصور لكن قدرهُ يكون بحسب الحاجة. وهذا عين ما قال حضرة المسيح الموعود عليه السلام في البراهين الأحمدية، ولا أدري من أين جاء أخينا المشتبه بخلاف ذلك.
← وكان قد اقتبس السيد المُشتبه جزءًا من كلام حضرة سيدنا أحمد من كتابه المُعجر "حقيقة الوحي" نصه "لقد ساد الكفر والشرك إلى حد كبير لكن الله ظل ساكتًا صامتًا، وصار مثل كنز مخفي" [حقيقة الوحي، ص138] وقد قلنا في ذلك بفضل الله التالي: أما اقتباسك من حقيقة الوحي بأن الله ظل صامتًا ساكتًا، فأنت قد فهمت اللفظ ─بقصد أو بدون─ بشكل حرفي، فأسقطت الصمت والسكوت على الكلام حصرًا، وهذا خطأ، إذ أنك لو أخذت ما في تلك الصفحة فقط كقرائن لتحولت معاني هاتين الكلمتين إلى معنى آخر وهو (عدم تدخله عز وجل بيده) وقرينة ذلك تجدها في قوله: "سيحارب الله بنفسه، ولن يعطي سيفًا في أيدي الناس" وقوله: "بل سيري قدرته سبحانه وتعالى" وأكد هذا المعنى الآية التي أوردها حضرة مرزا غلام أحمد عليه السلام عن القرآن "هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام" ولكن هيهات أن تفهم طبقات الكلام ما دمت قاصدًا متصيدًا.
وتعقيبًا على ذلك المعنى أيضًا ذكر حضرة مرزا بشير الدين محمود أحمد الخليفة الثاني والمصلح الموعود رضي الله عنه في التفسير الكبير ما يلي: "هذه الزلزلة التي أحدثناها بأيدي الكفار ضد المؤمنين إنما كنا نستهدف منها أن يسألنا عبادنا فنعطيهم. فلكي نجذب أنظارهم إلينا ونُظهر قوة فضلنا.. ظلننا ساكتين إلى أن تولدت في قلوبهم الرغبة للدعاء والابتهال إلينا. وقد فعلنا ذلك كي تزداد قلوبهم حبًا لنا من ناحية، ومن ناحية أخرى لكي يزداد إيمانهم لرؤية نصرتنا الإعجازية، ولكي يهتدي بذلك من الكفار من عنده بقية من التفكر والاعتبار. وعندما يتحقق هذا الغرض فإننا نقول لهم: ها قد جاء نصرنا." [التفسير الكبير، ج2، ط1، ص540 تحت تفسير الآية 215 من سورة البقرة، ترجمة: عبدالمؤمن طاهر].إذًا، فالسكوت والصمت الذي يتصوره سيادة المشتبه هنا ما هو إلا نوع من عدم التدخل، وهذا الإحجام عن التدخل أيضًا راجع لسبب، وقد وضح السبب حضرة المسيح الموعود عليه السلام في نفس سياق الكلام بل في نفس الصفحة في الكتاب ودونّاه هنا، وكذلك وضح نوع من السبب، حضرة المصلح الموعود رضي الله عنه في تفسيره. ولكن هيهات أن تُفهم ملتزم سطوح الكلام.
في الختام: الله سبحانه متكلم ومتفاعل مع خلقه، ولا يصيبه الخرس حاشاه سبحانه، إنما قد يحجم عن التدخل المباشر لتحريك بني البشر، لامتحانهم ولاختيارهم ما دام لم يبلغ السيل الزبى. أما حين تظلم الدنيا تمامًا فلا بد من ظهور الهلال. وهذا ما حدث وصار.
الخلاصة: أرى سيادتك كمن يجلس بصنارته يتصيد يريد الأحذية‼ فلما تغمز صنارته وتخرج من المياه حذاءًا لا سمكة.. تهلل وتقول "هذا البحر ليس فيه سمك بل كله أحذية"‼ والحق أن الله يسقطه بأم يده في عثرات عقله.
:.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق