السبت، 14 مايو 2016

دلائل وفاة المسيح الناصري من القرآن الكريم [7─10] (التقرير بذلك صراحة!)


ذكرنا في حلقة سابقة* [4─10] من حلقاتنا العشر هذه أن الله عز وجل طمأن نبيه عيسى ابن مريم بأنه سينجيه من المصير الملعون الذي أراده وسعيَّ له أعداءه من اليهود، فبشره بوفاة طبيعية سالمًا، معززًا مكرمًا مرفوع القدر. والآن في حلقتنا هذه نجد أن الله عز وجل ينقلنا إلى إخبار من زاوية أخرى، وكأن السابق ذكره كان إنباءًا خاصًا للمسيح وبشرى له، وأصبح مما عُرف عنه وعُرف به، أما اللاحق وسنذكره هنا الآن فكأنه إخبار عام للناس كافة. فيقول عز من قائل للذين يريدون تفاصيل الأمر عن من أرادوا كتم دعوة نبيه، أنهم ما قتلوه ولا تخلصوا منه كما تمنوا، ولا شُفي غليلهم بأن صلبوه ليُلعن ويتبدد أمره، ولكن اختلط عليهم أمر موته من عدمه أصلًا، بل في الحقيقة نجا وحصل معه ما أوردنا في الحلقة سالفة الذكر.
فيقول الله هنا جامعًا لحالٍ وقع في أكثر من عصر بداية من عصر المسيح نفسه مرورًا بعصر محمد وحتى الآن وفيما بعد :


فبعد النجاة، تلك الرحمة العظمى من الله إلى نبيه وإلى خلقه، يخبر الله هنا بالأحداث التي وقعت في أرض مجد المسيح الناصري، فيقول الله بوضوح تام «وإن من أهل الكتاب» أي من بعض أهل الكتاب الموجودين آنذاك، والبعضية هنا ليست مقتصرة على فرد أو اثنان أو ثلاثة أو عشرة أو مائة، لكن هذه البعضية التي أشار لها القرآن العظيم هنا إنما تعني معظم القبائل الإسرائيليةالعشر التي استوطنت بلاد المشرق، خلافًا للسبطين الإسرائيليين الذين رفضوه عليهالسلام والقاطنين في أرض فلسطين.
وفي هذا الشأن قال حضرة المسيح الموعود عليه السلام في كتابه العظيم إزالة الأوهام من الخزائن الروحانية ما يلي:



فبحسب هذا الكلام تكون لهذه الآية اتجاهين لغويين:
فقوله تعالى «إلا ليؤمنن به» تشير إلى كون «إنْ» البادئة في هذه الآية هي بحسب القواعد النحوية تكون [إنْ المخففة من الثقيلة] ودليلها؛ اللام في الخبر «ليؤمنن» وهي المعروفة باللام الفارقة، أي التي تفرق بين إنْ النافية وبين إنْ المخففة من الثقيلة.

قال ابن هشام: "وحيث وجدت إنْ وبعدها اللام المفتوحة... فاحكم عليها بأنّ أصلها التشديد". [مغني اللبيب عن كتب الأعاريب،ابن هشام، دار الفكر بدمشق 1964، ط1،ص21]

فيكون المعنى في هذه الآية، أنها آية خبرية عما حصل، فتخبرنا وأهل الكتاب بأن المسيح قبل حادث الصليب، وبعد نجاته من مؤامرة الصلب، تلقى أولًا نبوءة بخصوص حياته ووفاته سالمًا وهي «إني متوفيك»؛ ثم تلقى ثانيًا نبوءة بخصوص مجد انتصاره عليه السلام وهي «ورافعك»؛ ثم يخبرنا الله بتفاصيل ذلك المجد في عصر المسيح؛ فيقول ما نحن بصدده في هذه الآية الآن.. كما يضع أهل الكتاب من يهود ومسيحيين المعاصرين لمحمد ومن بعده حتى الآن أمام خبر لا يمكن رده من قِبلهم بدلائل تأكيدية بشكل جازم.

فأهمية هذه الإشارة اللغوية هو تصحيح الاعتقاد حول هذه الآية، بعدما كان مبني فحسب على أنَّ «إنْ» في صدر الآية نافية دون النظر للقرائن الموجودة في الآية مع هذا النفي، وبالتالي يترتب على ذلك وجوب رجوع عيسى ابن مريم (الناصري) بنفسه في آخر الزمان ليؤمن به كافة أهل الكتاب قسرًا وعن بكرة أبيهم دون تخلف واحد منهم ─وهذا مناف للمنطق الطبيعي فضلًا عن مخالفته للنص القرآني─ ثم يموت! وهذا خطأ، وصوابه أولًا أنَّ «إنْ» في صدر الآية بين أيدينا الآن هي أيضًا [إن المخففة من الثقيلة] كما قدمنا، حيث بعد نبوءة الرفعة للمسيح يقدم الله تفصيلها، فيقول وإنه آمن به حين ذاك من أهل الكتاب كذا قبل موته عليه السلام وقتها وذلك إتمامًا للسرد القصصي القرآني، وليس من تفسير لاكتفاء من جعل «إن» في صدر الآية نافية فحسب دون الالتفات للقرائن معها، إلا أنه تأثر بالتفسيرات المسيحية وبتصوراتها في رجوع المسيح ليجبر الأمم على الخضوع له وإدخالهم قسرًا في دين الله ─بحسب سفر الرؤيا─ فسيطرت عليه، فصدّرها بدوره كأنها الحق المُطلق‼
إذًا، فتلك أولًا إشارة قطعية الدلالة على موت المسيح عيسى ابن مريم، وذلك في حال كون «إنْ» في الآية هي المخففة من الثقيلة، بتحقق إيمان جزء كبير من أهل الكتاب به قبل موته آنذاك تحقيقًا لنبوءة الرفع.

أما إذا افترضنا كونها نافية وذلك لالتحاق «إلا» بها، لِذكر ابن هشام في نفس المرجع السابق كذلك: "وقول بعضهم: لا تأتي إن النافية إلا وبعدها إلا" لذا فنحن أمام «إنْ» بمعنى (ما) النافية أيضًا، ولكن يجب مراعاة الفعل المضارع «ليؤمنن» وعدم الاكتفاء بالنفي في صدر الآية فحسب لكي لا يتحول المعنى إلى الحصر مع الجبر. وهذا ما أشار إليه حضرة المسيح الموعود في الفقرة الثانية من المقتبس الفائت. فهذه الكلمة كفعل مضارع «ليؤمنن» تفيد الحال والاستقبال، فالإيمان به عليه السلام حاصل لا محالة قبل موته حينذاك مصداقًا لقول الله تعالى: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» [المجادلة] وقوله «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ* وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ» [الصافات] فإنه ما دامت الكلمة الإلهية من الله للعبد المرسل، فهي واقعة ومتحققة حتمًا في حياة هذا العبد، ثم تكون غلبة الأتباع فيما بعد كاستمرار للنصرة.
أما إذا اعتبرنا كالمفسرين التقليديين كون «إنْ» نافية فحسب متجاهلين ما هو خلاف ذلك وغافلين عن مضمون قوله: «ليؤمنن» فنحن نتعرض لخمسة أخطاء شنيعة تسبب اختلال في المعنى والسياق:

أولًا إذا كانت «إنْ» نافية بمعنى (ما) دون الالتفات لمعنى قرينة المضارعة في قوله «ليؤمنن» فذلك يعطي معنى يلغي سنة الله في الخلق والتي ذكرها في قرآنه، وأشار لها الحديث النبوي. 
 
ثانيًا إذا كانت «إنْ» نافية، دون النظر للقرينة، لنسخت عديد من الآيات القرآنية مثل «لا إكراه في الدين» وغيرها، ولا تتوقف المشكلة عند تلك النقطة التي قد تكون مستساغة عند البعض ─أقصد أمر النسخ في القرآن─ بل إن الموضوع يتطور ليكون أكبر من ذلك، فمدعي مجيء عيسى الناصري بشخصه آخر الزمان ليحكم بشريعة محمد، يعطونه هنا القضيب (الشرعي) ليهشم به شريعة محمد ﷺ ويبدل فيها‼ 

ثالثًا إذا كانت «إنْ» نافية دون اعتبار القرينة، لأصبح معنى الآية كليًا فيه التباس، فمدعي عودة المسيح الناصري آخر الزمان يقولون بأنه سيأتي قبل اندلاع القيامة ببضعة سنوات أو لعلها أيام، وفي نفس الوقت سوف يؤمن به جميع الكتابيين جبرًا حسب فهمهم السطحي والمغلوط للآية، ثم وفي ذات الوقت سيشهد عليهم المسيح في يوم القيامة ولن يشهد لهم

رابعًا إذا كانت «إنْ» نافية فحسب لأصبح فهم الآية القرآنية بصورتها هذه إسرائيلي محض! نعم، فمن اطلع على قصص العهد القديم للاحظ أن كاتبه اهتم قصدًا بحياة بني إسرائيل حصرًا وأنهم أسياد العالم وشعب الله المختار والوحيد، في حين أهمل كاتبه عمدًا كل شعوب المعمورة وأراضي الأمم الأخرى ونبذها! ويأتي المسلم على هذه الآية ويفهمها بهذا الفهم العنصري والمسيحي، فيحصر إيمان أهل الكتاب فحسب بالمسيح في آخر الزمان من دون كل مجموع بني آدم من ذوي الأديان الأخرى أو حتى معدومي الأديان وكأنهم لا علاقة لهم برب هذا المسيح ولا يعنيهم كل ما يحصل من أحداث في آخر الزمان!
خامسًا إذا كانت «إنْ» نافية فحسب، وبدون قرينة الفعل المضارع في «ليؤمنن» لالتبس الشكل اللغوي للآية، وأصبح لا يدل على معنى مستقيم لها، كما تقدم وذكرنا.

بقيَّ لنا الآن أن نشير إلى قوله تعالى: «قبل موته» على الرغم من قوله تعالى في أماكن أخرى من قبل: «إني متوفيك»، فلمَ قال: «قبل موته» ولم يقل (قبل وفاته)؟!
ولقد أشرنا إلى عكس هذا الإشكال في موضوع الحلقة [4─10] حين ذكرنا لماذا قال تعالى: «إني متوفيك» ولم يقل (إني مميتك)؟ فذكرنا ما خلاصته "فمتوفيك هنا هي كلمة قيلت أثناء أفاعيل المكر العدواني ضد مسيح الله، فهي = استجابة الله لدعاء نبيه وطمأنته إياه، وإخباره هو بتلك الاستجابة" وكل ذلك في نبوءة اختزلها القرآن العظيم في كلمة «إني متوفيك».

والآن وفي حلقتنا هذه نجد أن الله عز وجل ينقلنا إلى إخبار من زاوية أخرى، وكأن السابق ذكره كان إخبارًا خاصًا للمسيح، وأصبح مما عُرف عنه وعرف به فقال مخبرًا ومبشرًا إياه: «إني متوفيك» أما الآن فهو إخبار عام للناس كافة، فيقول عز من قائل للذين يريدون تفاصيل الأمر عن من أرادوا كتم دعوة نبيه، أنهم ما قتلوه ولا تخلصوا منه كما تمنوا، ولا شفوا غليلهم بأن صلبوه ليُلعن ويتبدد أمره، ولكن اختلط عليهم أمر زهوق روحه من عدمه، بل في الحقيقة نجا وآمن به كثير من قومه وبرز نجمه عليه السلام وعلا، وكل ذلك كان قد تم قبل انقضاء حياته عليه السلام بالموت المُقدر له طبيعيًا والذي أنبأه الله بوقته في بشارة «إني متوفيك».
إذن فقوله: «قبل موته» مقصود بها إخبارنا نحن، أما قوله «إني متوفيك» فالمقصود بها استجابة دعاء المسيح وإنباءه ببشارة النجاة وإتمام المهمة والموت طبيعًا في النهاية بسلام.

:.

الخميس، 5 مايو 2016

دلائل وفاة المسيح الناصري من القرآن الكريم [6─10] (نهي الله عن المبالغة في أمره عليه السلام)



نقدم اليوم دليل قرآني جديد حول طبيعة المسيح عيسى ابن مريم البشرية وحتمية وفاته، لأن بدون ذلك يتعرض الدين للتخلخل والضعف، فهو متعلق مباشرة بحق الله حصرًا، وإلا فحكمته سبحانه معرضة للشبهات.

في هذه الآية الكريمة يكلمنا الله بصراحة وبوضوح منقطع النظير ويقول لنا وينبهنا أن لا نغلو في ديننا، ويضيف بقوله تعالى مشيرًا إلى نقطة هامة من موضوع الغلو في الدين ألا وهي إطراء المسيح عيسى ابن مريم، حتى يتطور هذا الإطراء إلى إخراجه من المرتبة البشرية الطبيعية وهو مبعوث الله إلى الخلق، وإدخاله في إطار من الاستثنائية. لقد نهى الله عن ذلك، ولكنه لم يكتف عز وجل بمجرد النهي، بل قدم سبحانه عدد غير قليل من الإضاءات على ما قد ضللنا في اعتقاده.
في البداية يجب أن ننوه بأن هذه الآية تخاطب كل أهل الكتاب، بمن فيهم المسلمين. بل هم الأولى هنا في تلقي الخطاب مبدئيًا، فاستهل خطابه توجيهًا لليهود فحضهم على أن لا يتفوهوا بكلام لا يليق بالله تعالى ثم أسقط هذا الحض على المسلمين فأخبرهم بحقيقة المسيح والتي يشترك في الاعتقاد الفاسد فيها كل أهل الكتاب فقال: «إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله».
* يجب أن نعرف أولًا ما هو الغلو؟ والغلو هو الارتفاع في وصف الشيء ومجاوزة فيه القدر والحد الطبيعي وإدخاله في إطار غير المعقول. فإذا كان الله قد نهانا عن الغلو في هذه المسألة، فإنه يقصد بكل وضوح أن لا نرفع الموضوع إلى ما هو فوق الطبيعي بأي حال!
لكن قد يقول قائل إن هذا النهي موجه للمسيحيين خاصة، إذ ألّهوه عليه السلام فنرد عليهم بالنقاط التالية بعد عرض الحديث النبوي التالي:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بَاعًا بِبَاعٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ وَشِبْرًا بِشِبْرٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمْ مَعَهُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَالَ فَمَنْ إِذًا» [مسند أحمد]
 ولتفصيل وتحليل هذه الآية نعرض تلك النقاط:

1/ فقوله: «إنما المسيح ابن مريم رسول الله» يعني به تأكيد أن المسيح ليس إلا بشر، فهو ابن مريم أي مولود وهو مقدس مبرء لأنه رسول الله. ونفي عنه غير ذلك مما أشيع حوله، سواء كانت هذه الإشاعة سالبة لبراءته ولقداسته كما اعتقد اليهود، أو كانت مضفية عليه ومانحة له هالة فوق هيئته كما اعتقد المسيحيين وتبعهم في ذلك المسلمين! فقوله «إنما» يقصد تحقيق الشيء على وجهٍ (أي تأكيد كون المسيح أنه ابن مريم وفي ذلك تحقيق البشرية وهو رسول الله، وفي ذلك تحقيق الرسولية القدسية) مع نفي غير ذلك عنه، سواء كان الاستثناء في البشرية، أو الرفع لدرجة الألوهية، فهي أي «إنما» تفيد معنى الحصر المقصود به «وما أرسلنا من قبلك إلا رجالًا».

2/ وقوله: «وكلمته ألقاها إلى مريم» وهذه الجزئية ليست عائدة على المسيح عليه السلام، فلا تكون (رسول الله وكلمته) فالكلمة هنا بمعنى الحكم أو الأمر، فعيسى ابن مريم هو رسول الله إلى البشر؛ أتى بأمر الله وحكمه إلى مريم، و (الْإِلْقَاءُ) كَالْإِمْلَاءِ وَالتَّعْلِيمِ، فليس المسيح بشخصه هو كلمة الله كارتباط من نوع الارتباط الجنسي أي من ذات جنس الله إنما هو كما بين الله في الآية أنه رسوله، والكلمة أي أمره؛ هو الحكم والتعليم الذي ألقاه إلى مريم.
وهذا رد على نوعين من الادعاءات المفتراه، أولًا رد على المسيحيين الذين يقولون: «وكان الكلمة الله» [يوحنا] فيرد هنا الله ويقول: «إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله. وكلمته ألقاها إلى مريم» فليس المسيح هو بذاته الكلمة، ولكنه عليه السلام نتاج الكلمة، أي الحكم الإلهي والتعليم الرباني المُملى إلى مريم الصدّيقة. وبذلك لا يكون الله تعالى هو ذاته الكلمة، ولا يكون المسيح عليه السلام هو ذاته الكلمة أيضًا، إنما الكلمة هي أمر الله وحكمه الصادر منه تعالى إلى مريم الصدّيقة، والتي بدورها صدقته وقبلته «وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا» [التحريم] فكان جزاء تصديقها أن كان منها المسيح رسول الله.
ثانيًا هي رد على عامة المسلمين الذين يدّعون بأن المسيح ابن مريم هو نفسه الكلمة، يضاهون بذلك قول من سبقهم، فيستبعدون عليه الموت رغم بشريته التي يقرون بها. فوقعوا في شرك اللاهوتية والناسوتية، فيقولون بأنه عليه السلام هو بشر نعم ولكنه كلمة الله أيضًا، لذا فينكرون الموت عليه ولو مؤقتًا لمدة تخرق المنطق البشري، والقانون الإلهي في البشر! فرد الله عليهم ظنهم وقال: «إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله. وكلمته ألقاها إلى مريم» فهو عليه السلام نتيجة تصديق مريم بحكم ربها وبكلماته تعالى. ولو تدبروا قليلًا في اعتقادهم القاصر هذا، بقولهم وهل تموت كلمة الله؟! رغم أنهم فيما سبق يقرون ببشريته وبقاءه إلى حين وسينزل ثم يموت! فكأنهم يقرون بموت كلمة الله ولكن ليس إلا مؤخرًا أي بعد حين فعجبًا لهذا التناقض.

3/ أما قوله تعالى: «وروح منه» فهو كذلك يحمل عند عامة المسلمين أحمالًا لا يحتملها، إذ ظنوا أن اللفظ عائد على المسيح حصرًا، والحق أنه عائد إلى مريم خاصة، ودليل ذلك في أكثر من آية «فأرسلنا إليها روحنا» [مريم] و «والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا» [الانبياء] و «التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا» [التحريم] وقوله «فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين» [الحجر][ص] ونستنتج من مجموع هذه الآيات أن نفخة الروح إنما تخص المنفوخ فيه، فلفظة "روح" هنا متعلقة بالكلمة الملقاة إلى مريم، فإذا كانت الكلمة هي حكم الله وأمره، فالروح هو النعمة الناتجة عن تصديق الكلمة.  
وفي ذلك يقول حضرة مرزا غلام أحمد المسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام في كتاب نور الحق حول الآية «وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» [الجاثية]:


فكذلك نقول أيضًا أن ليس الروح عائد بشكل خاص على المسيح، إنما في الأصل إلى مريم التي كان منها المسيح، إذ لما تقبلت هي الأمر الإلهي بعناية وصدق، نبتت فيها النعمة الربانية، «وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» [الروم].

من كل ذلك نخلص إلى أن السيد المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام ما هو إلا رسول لا يختلف عن بقية الرسل في الطبيعة البشرية المطلقة، أما الكلمة الإلهية والروح فهما أوامر الله ونعمهِ، وليست هي ذات الله بحال. وعلى من يعترض، فليقل لنا لماذا قال الله عز وجل فيما بعد هذا الكلام: «فآمنوا بالله ورسله» فإذا كانت اعتراضاتهم فيها شيء من الصحة لقال سبحانه (فآمنوا بالله ورسوله) كتفضيل خاص لهذا الرسول المسيح عيسى ابن مريم لكنه لم يقل ذلك ودحض سبيل المعترضين، وساوى بين رسوله المسيح وبقية رسله من قبله ومن بعده، فقال عز من قائل: «إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله ... فآمنوا بالله ورسله».
فإن أي اعتقاد يخالف ذلك يكون كما قرر الله تعالى؛ ما هو إلا غلو في الدين، نهانا الله عنه بكلام صريح مبين. وأي غلو أكبر والقول بأن المسيح حي منذ أكثر من ألفي سنة لا زال قائم على ألسنة المسلمين؟
لقد أبرز الله في هذه الآية قول في غاية الأهمية، لما قال: «لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ» ثم سرد تفاصيل طبيعة المسيح، وكأنه سبحانه يريد منا أن ننزهه تعالى في أنفسنا من شوائب فكرنا التي مست حكمته عز وجل وأساءت، فالحق أن الله لم يقل بما يقوله عامة المسلمين اليوم عن المسيح، بل قال بكل جلاء إنما هو رسول، كالرسل، كالبشر، مات بسلام، فلا تحرفوا الكلام لتمجدوه.. فتحطوا من قدر الخالق الديان سبحانه.


:.