السبت، 11 أبريل 2020

لماذا عُلِّق على الصليب ولم يُرجم خلافًا للشريعة اليهودية؟

في هذا الموضوع سنقوم باستخلاص المغزى المخفي من تبديل طبيعة الحُكم الذي نُفذ على السيد المسيح الناصري من تشريع الموت رجمًا إلى حُكم التعليق على الصليب

تشريع العقوبة

ورد التشريع الديني اليهودي التالي تجاه كل من جدّف[1] على اسم الرب: «أَخْرِجِ الَّذِي سَبَّ إِلَى خَارِجِ الْمَحَلَّةِ، فَيَضَعَ جَمِيعُ السَّامِعِينَ أَيْدِيَهُمْ عَلَى رَأْسِهِ، وَيَرْجُمَهُ كُلُّ الْجَمَاعَةِ. وَكَلِّمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَائِلاً: كُلُّ مَنْ سَبَّ إِلهَهُ يَحْمِلُ خَطِيَّتَهُ، وَمَنْ جَدَّفَ عَلَى اسْمِ الرَّبِّ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ. يَرْجُمُهُ كُلُّ الْجَمَاعَةِ رَجْمًا. الْغَرِيبُ كَالْوَطَنِيِّ عِنْدَمَا يُجَدِّفُ عَلَى الاسْمِ يُقْتَلُ»[2] (يعني أن عقوبة التجديف هي القتل رجمًا بغض النظر عن المُجدف).

• الاتهام والعقوبة

هذا وقد أشيع عن السيد المسيح بين شيوخ اليهود أنه مُجدِّف فقالوا: «هذَا يُجَدِّفُ!»[3]، وقال السيد المسيح محاورًا خصومه: «أَعْمَالاً كَثِيرَةً حَسَنَةً أَرَيْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَبِي. بِسَبَبِ أَيِّ عَمَل مِنْهَا تَرْجُمُونَنِي؟ أَجَابَهُ الْيَهُودُ قَائِلِينَ: "لَسْنَا نَرْجُمُكَ لأَجْلِ عَمَل حَسَنٍ، بَلْ لأَجْلِ تَجْدِيفٍ[4]، وصرّح رئيس الكهنة بذلك أيضًا قبل تنفيذ الحكم بيوم واحد قائلًا: «"قَدْ جَدَّفَ! مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شُهُودٍ؟ هَا قَدْ سَمِعْتُمْ تَجْدِيفَهُ! مَاذَا تَرَوْنَ؟" فَأَجَابُوا وَقَالوُا: "إِنَّهُ مُسْتَوْجِبُ الْمَوْتِ"»[5].. والجدير بالذكر أن التجديف هنا لا يقتصر على توجيه السباب إلى اسم الله كما ورد في (لا 24/ 15ـ16) وإنما يشمل أي إهانة موجهة إلى جلاله أو سلطانه.. فكان زعم يسوع بأنه المسيح وأنه يتمتع بجلال وسلطان يقتصران على الله وحده بمثابة تجديف في نظر قيافا (رئيس الكهنة)، وهذه جريمة تعاقب شريعة موسى مرتكبها بالإعدام رجمًا[6]

• تغييّر الحُكم

والغريب أنه على الرغم من وجود تشريع ديني يهودي واضح برجم المُجدف حتى القتل، وقد توافرت كل ما يجعل التُهمة لصيقة بالمُتهم من أقوال أُخذت عليه، وتوفير شهود زور وغير زور ضده لتثبيت التُهمة وإنفاذ العقوبة التي هي القتل رجمًا، نجد أن هناك تحول هام وجوهري وغريب قد حصل في ذلك الوقت، فقد استعمل الحاكم الروماني بيلاطس حيلة نفسية جماهيرية ونفذها ببراعة[7]، فرغم التشريع الديني اليهودي الموثق، ورغم كبار مشايخ اليهود، وجاهزية التهمة والشهود ومعرفة وتحديد العقوبة... رمى بيلاطس كل ذلك عرض الحائط بناء على سلطته

وقرر أن يغير الحكم بالعقوبة، من القتل رجمًا إلى مجرد التعليق على الصليب، ولكن على أن يكون ذلك مطلبًا شعبيًا جماهيريًا، ليطغى على التشريع الديني، رغم أنف كبار مشايخ المجلس اليهودي! «قَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: "فَمَاذَا أَفْعَلُ بِيَسُوعَ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ؟" قَالَ لَهُ الْجَمِيعُ: «لِيُصْلَبْ!» فَقَالَ الْوَالِي: "وَأَيَّ شَرّ عَمِلَ؟" فَكَانُوا يَزْدَادُونَ صُرَاخًا قَائِلِينَ: "لِيُصْلَبْ!"»[8].. وبهذا اعتُمد هذا الحُكم جماهيريًا، بعد أن بثته السلطة السياسية بالطبع ورسَّخته، وصارت الحكومة تمسك بزمام جميع الأمور تجاه شخص المُتهم، على عكس الرجم الذي سيجعل المتهم بين أيدي الغوغاء والعامة مباشرة تمامًا، ما ينفي أي احتمالية ولو ضئيلة للنجاة.

• الشروع في التنفيذ

قال الراوي: «ثُمَّ خَرَجُوا بِهِ لِيَصْلِبُوهُ»[9].. واللافت أن في وقت هذا الاقتياد لم يذكر أي من الرواة أي محاولة مشيخية يهودية لتعديل ذلك الحكم بالعقوبة الصادرة حكوميًا الذي هو التعليق على الصليب لرده، بناء على التشدد الديني، إلى روح الشريعة اليهودية ليكون قتل رجمًا. وقد كانت سياسة روما العامة أن تترك للمجلس اليهودي حرية تصرف كبيرة، وقد كان ذلك المجلس يدير شؤون اليهود في حياتهم الدينية والسياسية، في الحدود التي فرضها الاحتلال الروماني، وقد كان لذلك المجلس الحق في إصدار الحكم بالإعدام وتنفيذه، ولكن مع ذلك كان إذن الحاكم ضروريًا لتنفيذ العقاب[10] ويبدو أن مشايخ اليهود قد وجدوا أنفسهم أمام ذلك الوضع في حرج قد يصادمهم مع الحكومة وعامة الشعب الذي أقر بلسانه الحكم.

• تنبيهات وردود

قد يقول بعض المسيحيين الأفاضل: إنها خطة الله ليتم ما قال الكتاب. فأقول إنه من الواجب أن تتحلى خطة الله بالتبريرات المقبولة والمعقولة، حتى لا يخرج من بعد ناقدين كأمثالي، بسبب عشوائية غير مبررة، فينقضونها ويبنون على النصوص الكتابية الموجودة نتائج منطقية صحيحة، مغايرة للمعتقد السائد لديكم. وذلك بناء على سير الأحداث الطبيعي المبين في النص.

ويبدو من النص الإنجيلي أيضًا بأن يسوع والمقربين منه جدًا على دراية مسبقة بهذه الخطة سلفًا[11]، حتى أن بداية التنفيذ كانت على خلاف إرادة مشايخ، وباستباق حكومي مقصود ومُرتب له جيدًا[12]

هذا بالإضافة إلى أن ما قيل في كتب الأنبياء من نبوءات حول التعلق على خشبة الصليب لهو إفادة جلية بالفعل لما حدث، وتصريح واضح إلى أن تلك العقوبة (أي الصليب) سيكون من ورائها مغزى هام ينكشف مع مرور الأيام بتبرير منطقي، لن يكون متاحًا إذا نُفذت عقوبة الرجم.

السؤال الآن، إذا كان كل ذلك قد تم كما قلنا بترتيب مسبق، وبالتعاون مع أنصار يسوع المسيح، ومنهم أبرز رجال الدولة، فلماذا لم يتم تفادي كل ذلك بالقيام بتهريب يسوع وينتهي كل شيء؟! وإجابة هذا السؤال على جانبين:

أولًا، أن يسوع في فترة وجوده الأخيرة في تلك المنطقة كان تحت المراقبة الدائمة من مشايخ اليهود، وبعض من كانوا يظهرون نصرته، كيهوذا، والذي كان يعلمه يسوع، وكان ينقل للمشايخ أخباره أولًا بأول. ما جعل محاولة ترك المنطقة في تلك الفترة من الصعوبة بمكان، بالإضافة إلى استمرار التهديد بانعدام الأمن حتى بعد الرحيل.

ثانيًا، كانت الدولة الرومانية لها قوانينها الصارمة، والتي لا يُسمح فيها بالتلاعب من أي شخص حتى ولو كان من حكامها، فإذا كان بيلاطس قد حصل على يسوع كمتهم من قِبل مشايخ اليهود، فكان عليه التعامل معه كمتهم، وإنفاذ عليه القانون. يعني لا يستطيع أن يكتفي بسجنه مثلًا ثم يعمل على تهريبه مستقبلًا.. هذا تصور حالم وغير واقعي.

وبهذا ومع تضايق الدوائر أكثر فأكثر في ذلك الوقت، كان أبرز وضع للنجاة حينها أن يتم القبض على يسوع من المشايخ ويُسلم لأيدي الحكومة فتفعل فيه ما تشاء من عقوبة بعيدًا عن رغبة مشايخ اليهود الذين أرادوا إهلاكه.

التبرير المنطقي

أما الآن فإن المبرر المقبول والمنطقي لاعتماد حُكم التعليق على الصليب بدلًا من الرجم حتى الموت على السيد المسيح بخلاف ما نصت عليه الشريعة الدينية اليهودية، كان بترتيب وتدبير مسبق من كبار مناصريه وأتباعه، وأبرزهم بيلاطس البنطي الذي أوعز إلى رجاله ضمان إبقاء المسيح حيًا. وذلك يقتضي إشاعة وترسيخ وتزيين في أذهان الجماهير بل وحتى الشيوخ المتشددين لحساب الشريعة وجوب إهلاكه صلبًا وليس رجمًا.
وكان الهدف والمغزى من ذلك هو أن نتيجة الرجم هي الموت السريع والمُحقق دون احتمالات أخرى واردة للنجاة. بينما الصليب فإن احتمال النجاة منه أكبر وأضمن كثيرًا جدًا، بل إن الرعاية الحكومية لتحيط بالمتهم المُعلق طوال فترة التعلق على الخشبة وبدون تدخل جماهيري مدني أو ديني من أي نوع يُذكر، ما يجعل المُعلق في حفاظة حكومية دائمة بمنأى عن أي تصرف متهور وغير محسوب.

مثال من واقع الحدث

استمر وضع اللصين اللذَيّن حُكم عليهما مع السيد المسيح بنفس الحكم استمر لمدة 9 ساعات أحياء على الصليب ولم يموتا إلا بعد أن كُسرت ساقيهما، ما سبب لهما هبوطًا مفاجئًا في الدورة الدموية جراء التعلق الذي لا يُميت بذاته مهما طال. في حين لم يحدث ذلك للسيد يسوع المسيح فلم تُكسر له ساق! فنزل عن الصليب حيًا[13]

وتدل طريقة الدفن المغايرة لعادات الدفن عند اليهود[14] والتي حصلت لجسم يسوع المسيح بعد نزوله عن الصليب -وقد تم العمل بهذه الطريقة للدفن مع المسيح بخلاف ما اعتادت عليه الجماعات اليهودية قديما أو حديثًا وبما لا تدعو الضرورة لعمله[15]- على أن خطة الحفاظ على حياته كانت مستمرة وقائمة على قدمٍ وساق دون تراخي ولا تهاون في أي من التفاصيل الصغيرة أو الاحتمالات.

 

 

الهوامش والمراجع

 



[1] جدف: أي تكلم بأقوال ضد الذات الإلهية

[2] لا 24/ 15ـ16

[3] مت 9/ 3

[4] يو 10/ 32ـ33

[5] مت 26/ 65-66

[6] التعليق على آية 64 أصحاح 14 من إنجيل مرقس، الكتاب المقدس الدراسي على ترجمة الحياة، القاهرة – مصر ط4 س2018 [الهامش] ص2399

[7] كان الحاكم في ذلك الوقت متعودًا في العيد أَنْ يطلق للناس مسجونا واحدًا يختارونه، وكان لديهم حينها سجين شهير اسمه بَارَابَاسَ، وفي ذلك الوقت المشحون قال لهم الحاكم بيلاطس: «مَنْ تُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ؟ بَارَابَاسَ أَمْ يَسُوعَ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ؟» فردوا قالين "باراباس" وهنا أوحى لعقولهم المشحونة بأن يحمل يسوع عقوبة السجين باراباس التي هي الصلب. ولما انتهى من رأي الشعب، انتقل إلى استنطاق المشايخ بنفس الحكم، فنادى في الناس قائلًا: "ولكن يسوع هذا مظلومًا، وأن امرأتي تألمت في حلم من أجله الليلة، فلما رأى المشايخ أن الوضع قد ينقلب ضدهم زادوا في تحريض الجموع في طلب باراباس ويهلكوا يسوع. وهنا توجه الوالي إلى مشايخ سائلًا: «أي مِنْ الاثْنَيْنِ تُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ سراحه لكم؟!» فَقَالُ المشايخ هنا: «بَارَابَاسَ» ولكن بيلاطس الحاكم لم يكتفي بذلك، بل أكد على الحكم المتحول لديهم قائلًا: «فَمَاذَا أَفْعَلُ بِيَسُوعَ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ؟» وهنا حصل على مراده حين قالوا جميعًا «لِيُصْلَبْ!» (وردت هذه الحادثة في إنجيل متى 27/ 15-22)

[8] مت 27/ 22ـ23

[9] مر 15/ 20

[10] تعليق على آية 65 أصحاح 26 من إنجيل متى، لبنان ط3 دار المشرق، س1994 [الهامش] ص113، ترجمة الكتاب المقدس، الرهبانية اليسوعية "جيزويت"، الأب صبحي حموي اليسوعي، الأب يوسف قوشاقجي، بالتعاون مع الأستاذ بطرس البستاني.

[11] فقد ورد صراحة في الإنجيل النص التالي على لسان يسوع: «تَعْلَمُونَ أَنَّهُ بَعْدَ يَوْمَيْنِ يَكُونُ الْفِصْحُ، وَابْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ لِيُصْلَبَ» ويكمل الراوي النص قائلًا: «حِينَئِذٍ اجْتَمَعَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ وَشُيُوخُ الشَّعْب إِلَى دَارِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ الَّذِي يُدْعَى قَيَافَا، وَتَشَاوَرُوا لِكَيْ يُمْسِكُوا يَسُوعَ بِمَكْرٍ وَيَقْتُلُوهُ. وَلكِنَّهُمْ قَالُوا: «لَيْسَ فِي الْعِيدِ لِئَلاَّ يَكُونَ شَغَبٌ فِي الشَّعْبِ» (مت 26/ 2-5) فيسوع أولًا لديه علم مسبق بالصليب وليس الرجم، وكان ترتيب المشايخ ألا يتم ذلك في العيد، فتم خلاف كل ما أرادوا!

[12] «وَلَمَّا كَانَ الصَّبَاحُ تَشَاوَرَ جَمِيعُ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَشُيُوخُ الشَّعْب عَلَى يَسُوعَ حَتَّى يَقْتُلُوهُ، فَأَوْثَقُوهُ وَمَضَوْا بِهِ وَدَفَعُوهُ إِلَى بِيلاَطُسَ الْبُنْطِيِّ الْوَالِي» (مت 27/ 2) وكان ذلك على أن يكون تنفيذ الحكم بعد العيد، ولكن الخطة كانت أن يتم كل ذلك في العيد وقبل السبت.

[13] "قيامة المسيح" الدليل الكتابي العلمي حول إثبات نزول السيد المسيح حيًا عن الصليب

 [14] عند اليهود اهتمام خاص بالدفن في مقابر الأسرة، وهذا على خلاف ما حصل مع يسوع إذ وضع جسده في قبر لغريب وبدون مراسم دفن أو جنائز! عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، دار الشروق، القاهرة، ج5، الدفن والمدافن، ص286، 287، ط1، س1999

[15] قد تدعو الضرورة لتكون طريقة "دفن الموتى" بوضع الجثة فوق سطح الأرض في غرفة جافة ومغلقة، وهذا كما يحدث في بلدان مثل مصر. وهي ضرورة بيئية، حيث يكون عند الحفر لمسافات غير طويلة في بلد مثل مصر ظهور تسرب المياه في المكان المحفور بسبب تشبع الأرض بمياه النيل ما يجعل الجثة في حالة غير آمنة ولا يؤدي إلى التحلل المناسب في مكان جاف. ولكن هذه المعذورات لم تكن موجودة في أرض فلسطين، بل إنها أرض جبلية ومرتفعات.