الأحد، 26 يوليو 2020

استلال سيرة محمد الفاتح من طين وروث الأحداث المعاصرة (1-2)

في هذا الأسبوع الأخير من الشهر السابع من السنة الميلادية 2020 خرج علينا حاكم سفيه بخطيب لديه ليس بفقيه حاملًا سيفًا على منبر رسول الله ﷺ! والله ورسوله وصالح المؤمنين برءاء من هذا الفعل مهما كان مقصده. ثم مر هذا اليوم بفرحة عارمة من همج يفضلون حمية الجاهلية ظنًا منهم بجهل مطبق أن بذلك يُنصر الإسلام، وما مر ذلك اليوم حتى جر وراءه فرحة غامرة لرعاع آخرين من الملحدين وأشياعهم.. ولأن رؤوس المُلحدين يترصدون بالدين كل مرصد فما احتفلوا كثيرًا بالسيف الذي رُفع على منبر رسول الله ﷺ بل أخذوا في شحذ سهام طعنهم في حضرة الرسول ﷺ نفسه من خلال نبوءة حضرته بفتح القسططينية (إستانبول حاليًا)، والتي تحققت بالفعل على يد سابع سلاطين بني عثمان السلطان محمد الفاتح، فأخذوا يطعنون في نزاهة الفتح والسلطان الفاتح، وليست نيتهم السلطان في الحقيقة بل هدفهم تلويث حديث رسول الله ونبوءته وبالتالي صدقه وشرفه ونزاهته..ﷺ
محمد الفاتح وذريعة الملحدين استنانه لقانون قتل الإخوة
إنَّ من يريد أن يجعلك تكره شخص فورًا فإنه يُقدم عنه (ما يرى) أنه سيء بدون أن يقدم خلفية هذا الفعل الذي دفعه إليه. تمامًا كالجهال الذين يقدمون معركة بدر على أنها جائت بعد تمسكن (وليس صبرًا) للرسول ﷺ لمدة 13 سنة في مكة ثم لما تمكن من القوم أظهر أنيابه ومخالبه يُعملها فيهم. والحق أنه لولا تتبع المشركين للمسلمين حتى بعد فرارهم بدينهم بعيدًا عن مواطن الفتنة في الدين، لما خاض المسلمون حربًا ولا حملوا سيفًا، لكنهم بعد أن خرجوا فرارًا بدينهم من المجتمع الذي كانوا يعيشون فيه "مكة" (وحافظوا على أمنه رغم انعدام حريتهم الدينية به) وانضموا إلى مجتمع آخر "يثرب" قبلهم وآواهم، لم يتركهم أولئك الذي فروا من قبضتهم "قريش" بل تبعوهم حتى ديار حياتهم الجديدة الآمنة أيضًا، فما كان من الله إلا أن أذن للمظلومين حينئذ بالدفاع عن أنفسهم ودينهم ومأواهم ومن آووهم، وبهذا كانت موقعة بدر حرب دفاعية محضة من قبل المسلمين وكذلك كل ما تبعها من حروب.
والآن مع السلطان محمد الفاتح، وخلفية القانون
لقد أقر العثمانيون منذ تأسيس دولتهم مبدأ عدم تقسيم الدولة لأنها ليست ملكًا للسلطان وعائلته، ومع ذلك لم يكن لديهم قانون محدد ينظم عملية انتقال العرش ما أدى إلى نشوب صراعات متكررة بين ورثة السلطان المتوفي. ولم تترك الإمبراطورية البيزنطية مثل هذه الفرص كل مرة للشروع في ضرب أساس ومفاصل الدولة العثمانية، فكانت تتدخل بتأييد أحد المتصارعين على العرش لحساب الآخر ومن ذلك تؤجج الصراع وتفرض هيمنتها إذا ما استتب الأمر لمن ساندته.
وللحفاظ على وحدة الدولة والأمن العام فيها اتخذ سلاطين آل عثمان عُرف قتل من تسول له نفسه الانقلاب على السلطان أو محاولة الاستيلاء على العرش في وجود السلطان ولو كان من إخوة السلطان أو حتى أبناءه «مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ»، ثم جاء السلطان محمد الفاتح فيما بعد فأطّر هذه السُنة في إطار قانوني كي يخرجها من عشواية العُرف في التنفيذ إلى قيد نظام الدولة. وكانت الغاية المُثلى من وراء ذلك هي كما ورد في القانون العثماني الحفاظ على كيان الدولة من التقسيم وبالتالي الانهيار «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا» وطبقًا حتى للمثل الشعبي القائل: "المركب التي فيها رئيسين تغرق" وللحفاظ على الأمن العام. وهذا الفعل سُمي وقتها شرعًا بحد البغي "أي عقوبة العصيان ضد الدولة" فكان مرتكز هذا القانون الشرعي الأول هو جريمة العصيان ضد الدولة، وهي في الإسلام تندرج ضمن جرائم مستحقة العقوبة وعقوبتها القتل "الإعدام" إذا توافرت عناصرها وهي: القيام بالعصيان، والتمرد ضد الإمام أو السلطان، ومحاولة الاستيلاء على الحكم باستعمال القوة.
♦سؤالين للملحدين♦
وبعد هذا السرد، هل من مدافع عن عصيان الأقارب في سبيل الاستيلاء على الحكم بغض النظر عن سلامة الدولة وأمن المجتمع؟! ثم هل هذه القوانين (القديمة) لا تناسب ولا توافق القوانين الحديثة للحفاظ على أمن وسلامة البلاد والعباد من التقسيم والشتات؟! وعلى الرغم من أن هذين السؤالين موجهين لملحدين فإني مع ذلك أعقب لهم بهذه الآية القرآنية لعلها تُحيي فيهم ضمائر يكتمونها قصدًا «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ».
هل كان محمد الفاتح المفضل لدى والده مراد الثاني؟
لن نجيب بـ "نعم" أو بـ "لا" على هذا السؤال، بل نترك وقائع التاريخ تُجيب، فلقد تولى محمد الفاتح السلطنة لمرتين الأولى في الفترة (1444- 1446) وكانت تنازلًا له من أبيه طواعيةً، بسبب ظروف صحية وإرهاق وكان محمد وقتها غرًا صغيرًا 12 عام، إلا أن والده وقتها ترك معه صدرًا أعظم قوي لمؤازرته، ثم عاد الوالد مراد الثاني للسلطة مجددًا بطلب من الابن بسبب انقلاب البيزنطيين على معاهدة صلح كانت قد عقدت مع السلطان الأب مراد الثاني. والمرة الثانية لسلطنة الابن محمد فكانت في الفترة (1451- 1481) وهي الفترة التي أنجز فيها فتح مدينة القسطنطينية وكانت ─أي السلطنة الثانية─ قبل وفاة أبيه بشهور وكان محمد وليًا للعهد حينها. ما يعني أنه لا مجال للسؤال هل محمد الفاتح كان هو المُفضل لدى الوالد أم لا، فما هو إلا حشو فارغ لكلام لا أصل له.
هل قتل محمد الفاتح أخ رضيع له للمحافظة على العرش؟
لقد كان لمحمد الفاتح أخ أكبر منه اسمه "علاء الدين" توفي في حياة أبيه وفاة طبيعية وهو شاب، وقد كان مراد الثاني الأب ينوي إسناد ولاية العهد له لولا وفاته، فلما توفي "علاء الدين" الابن جعل مراد الثاني ولاية العهد من بعده لابنه محمد. ولم يكن لمحمد الفاتح أخ رضيع اسمه أحمد كما سنرى، وكما يُلاحظ أنه عند توليه السلطة للمرة الثانية كان أيضًا مُعينًا عليه وصي للعرش هو نفس الصدر الأعظم الذي كان قائمًا بنفس المهمة في عهد توليه السلطة أول مرة، فلو فرضنا جدلًا وجود هذا الأمر فهو يُنسب إلى الوصي لا إلى الموصى عليه، ولكنها أيضًا غير موجودة كما سنرى.
أما إخوة محمد الفاتح الذكور فهم:
(1)     أحمد چلبي (1419 – 1437) ويتضح أنه توفي شابا في السابعة عشر وقبل تولي محمد الفاتح حتى السلطنة للمرة الأولى!
(2) علاءُ الدين عليّ چلبي (1425 – 1443) وهو الذي كان مُعينًا لخلافة الأب مراد الثاني، وتوفي وفاة طبيعية كما ذكرنا. وكان أكبر من محمد بسبع سنوات.
(3) أورخان چلبي (مات سنة 1453) وهذه السنة هي عام فتح القسطنطينية، ما يعني أنه كان يافعًا حينما توفي، وقد استتب لمحمد أمر المُلك، فلم يكن بينه وبين أخيه الفاتح مشاكل تُذكر، وإلا لكان تخلص منه قبل الفتح بفترة كبيرة.
(4) حسن چلبي (1450- 1451) ففي حين أن هذا الأخ اسمه حسن، وأن المقصود بالقتل يقولون أن اسمه أحمد فالظاهر أن حسن هذا مات بمنئى عن ذلك القانون أيضًا، فليس في المصادر العثمانية أن هناك حادث قتل إخوة ─والتي لا يستحي من إعلانها سلاطين العثمانيين "مهما كانت" نظرًا للأسباب التي قدمناها أعلاه حول صيانة كيان الدولة وأمن المجتمع─ كما أن محمد الفاتح هو من قنن هذه العملية فكيف يتنكر هو أو ينكر التاريخ مثل هذا الحادث في عهده إن كان قد حدث؟! فليس هناك مثل هذه الحوادث في عهد محمد الفاتح، والحوادث الثابتة والموثقة والمعروفة في تاريخ الدولة العثمانية لقتل الأشقاء والأخوة هي التالية فقط:
(1) ثلاثة حوادث قتل في عهد السلطان أورخان لأخويه خليل وإبراهيم اللذين أعلنا التمرد والعصيان، ثم قتل أخيه صاوجي الذي أعلن العصيان وتحالف مع أمير بيزنطي ضد والده.
(2) حادثة في عهد السلطان يلدرم بايزيد الذي قتل شقيقه "يعقوب" بوشاية ضده من بين أنصاره.
(3) في عهد السلطان محمد چلبي قام بقتل أخوته عيسى وموسى ومصطفى چلبي لتمردهم وتسيير الجيوش من أجل السلطة.
(4) في عهد مراد الثاني قتل عمه "دوزمجة مصطفى" لإبرامه إتفاق مع الإمبراطور البيزنطي مانويل لتقسيم الدولة، وكذلك قتل أخوه "كجك مصطفى" لتحالفه مع القبائل ضد أخوه السلطان على الحكم.
(5) في عهد السلطان ياوز سليم الأول تم قتل أخويه قورقوت وأحمد. الأول لعصيانه والثاني لتحالفه مع الدولة الصفوية.
(6) في عهد السلطان سليمان القانوني تم قتل ابنه "مصطفى" بسبب وشاية ضده من قبل حرم السلطان الأولى. ثم قتل ابن ثانٍ له هو بايزيد لتمرده على قرار تولية سليم ابن سليمان ولاية العهد، فاستعان بالدولة الصفوية واعتُبر بذلك خائنًا.
هذه هي حوادث قتل الأشقاء والأبناء في عهد الدولة العثمانية حصرًا، وليس في عَهدَيّ سلطنة السلطان محمد الفاتح أي أثر لأي قتل من هذا القبيل.
:
لاحقًا سنتكلم عن فتح القسطنطينة وبشارة رسول الله ﷺ حولها واستلالها من أضاليل الملحدين.

الاثنين، 20 يوليو 2020

سمات العلمانية في الحديث النبوي (2-7)

 "فصل المؤسسات الدينية عن سلطة الدولة"
تعد السمة الأبرز من سمات العلمانية والتي تدور في رحاها لظى حرب كلامية "وتكفيرية" شعواء مسألة إبعاد المؤسسات الدينية عن سيطرة الدولة ─أن تتحكم فيها أو أن تسيطر هي على توجيه الدولة─ والتي يروجها رافضي العلمانية بالقول نصًا "فصل الدين عن الحياة" وهو نص خاطئ، يَلقىَ زجًا تعسفيًا له في عقول كثير من العامة والطلاب.
ولكن ما المراد بإبعاد المؤسسات الدينية عن سلطة الدولة، ولماذا نفصل المؤسسات الدينية عن سيطرة الدولة؟ سؤال جدير لأن يُسأل خاصة وأن البعض يُعظمون تلك المؤسسات تعظيمهم للدين، وربما أكثر، رغم أن ذلك الفصل بين المؤسسة الدينية والدولة فيه من التقديس والحرص على المؤسسة الدينية أكثر مما يحرصه الرافض للعلمانية نفسه! فالدولة من مسماها تعني انقلاب الزمان، أي بين انخفاض وارتفاع، وهي مرتبطة بالسياسة التي هي القيام على الشيء بالإصلاح، وربما يكون هذا الإصلاح بين جلو وخبو.. أما المؤسسة الدينية فإنه إذا ارتبطت قيمها العِلّيَة بالانخفاض والارتفاع فقد أمست لايُعتد بها للاقتداء والاتباع؛ لذلك يُراد إبعادها عن سيطرة الدولة حرصًا وليس عزلًا. فالتحرير عن سيطرة الدولة لا يعني إلا الارتفاع بشأنها، كي لاتتحرى فيما تقول بشرًا وإنما يكون المُشرع الأعلى والوحيد لها هو الله. فلا تتأثر مثلًا بأراء أو أهواء سلطوية أو بكيانات دولية أخرى مؤثرة على دولتنا إذا ما حصل ذلك لا قدَّر الله.
الأزهر نموذجًا
هناك صيحات تخرج من حين إلى آخر تحاول فرض فكرة أن الأزهر يمثل وجه الإسلام المعتدل!! (ولا غضاضة في ذلك إذا تحقق فيه الاعتدال بالفعل) ولكني أعتقد أن الأزهر لا يمثل الإسلام أصلًا، (وهذا ليس تلميح بتكفير تلك المؤسسة العريقة لا سمح الله، ولكنه تصريح تام بعدم استقلاليته) فهو مؤسسة مصرية تابعة للدولة ويمثل سياستها ليس إلا، لذا فإن كل ما يخرج من الأزهر من دعوات دينية هو موقف مصر منها حصرًا وليس موقف الإسلام أبدًا، ولمن يعارضني في هذا الكلام، فليجيب على هذا السؤال البسيط: هل يحق للدارسين الأجانب في الأزهر، وما أكثرهم، أن يلتحقوا بهيئته العليا، أي هيئة كبار العلماء، ويترقى منهم الترقي الطبيعي فيه، ومن ثم يكون له الحق في الارتقاء لمقام الإمامة (أي منصب الإمام الأكبر شيخ الأزهر)؟ أم أن ذلك موقوف للدارسين من المصريين فحسب دون سواهم من عموم المسلمين؟! والجواب هو: بالطبع لا يحق لغير المصري هذا المنصب(1) وقس على ذلك كل مؤسسة دينية إسلامية في كل دولة لا تعتمد العلمانية كنظام سياسي واجتماعي.
وكما أشرت في بداية الكلام حول تداخل الدولة بسلطتها على المؤسسة الدينية، فلا يمكن في هذا الحال أن يظهر إمامًا دينيًا دون موافقة مُسبقة وتصديق بالموافقة عليه أو عدمه من السلطة السياسية الدنيوية!(2)
فنحن الآن في مواجهة متلازمة خطيرة ألا وهي ضرورة انسياق الإمام الديني في ظل الدولة مهما حدث، لأنه لا يخرج عن إطارها ولا يظهر إلا بأمرها. وهنا غالبًا ما تحدث إشكالية تتكرر، وهي الصراع الفكري بين الرئيس الدنيوي والإمام الديني، فعلى الرغم من وجوب عدم وجود مثل هذا الصراع طبقًا لوضع وآلية عمل واختيار الإمام الديني بالنسبة للإمام الدنيوي المتحكم، وللأصول الدينية أيضًا، إلا أن ذلك يحدث وكأنه يصور تجسيدًا للحديث النبوي عن رسول الله ﷺ حين سُئل عن الساعة وموعدها فقال فيما قال: «أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا»(3) أي أن يتعالى الإمام الديني على الرئيس الدنيوي الذي عينه! وبالتالي يصبح أي شعار مثل "الأزهر قادم" إنما هي تعبيرات بشكل أو بآخر عن نوايا الانقلاب على الدولة، ورفض القوانين التي تنظم عمل هذه المؤسسة الدينية في إطار الدولة.
شواهد حديثية من أقوال النبي ﷺ
ولكن قد لايُقنع كل هذا الذي أوردناه كثير من العوام، فمهما يكن فهم منقادين، ولن يؤثر فيهم قول إلا إذا ربطناه بما هو مُقدس أعلى لديهم، فما وجدنا ضالتنا إلا في سنة الرسول الهادي ﷺ، وذلك تمامًا لِما قلناه ونؤكده بأن "الإسلام علماني بطبعه" فمحمد ﷺ هو نبي الإسلام ورسول الله إلى الناس كافة، وسنته هي كل فعل أو قول أو تقرير منه ﷺ، ولقد برزت تلك السمة العلمانية التي بين أيدينا الآن ─أي إبعاد المؤسسات الدينية عن سيطرة الدولة─ في قوله وفعله بجلاء فقال ﷺ: «العلماء أمناء الرُسل على العباد ما لم يخالطوا السلطان ويدخلوا في الدنيا، فإذا دخلوا في الدنيا وخالطوا السلطان فقد خانوا الرسل، فاعتزلوهم»(4) والمقصود بالعلماء هنا علماء الدين، وليس مقصود الحديث أن السلطان الدنيوي دائمًا ما يكون على خطأ، بل إن ارتباطهم بأعمال السياسة والدنيا قد يعرضهم للزلل والخطأ وخوض الفتن في كثير من الأحوال... كما أن هذا الحديث عن رسول الله ﷺ يشير بإشارة واضحة إلى ضرورة فصل المؤسسة الدينية عن المؤسسة السلطوية الدنيوية، وذكِر هذا الحديث لدليل على إنباءه ﷺ بأن هذا الخلط غير المرغوب سيحدث.
وبهذا الخلط الذي نهى عنه رسول ﷺ أصبحت المؤسستين الدينية والحاكمة كمؤسسة واحدة عمليًا(5) وبالتالي أصبحت الأمة كأنها بساق واحدة، رغم أن الله وهب لها ساقين! ثم لما يدب العطب والخلل في تلك الساق الواحدة فقد صارت الأمة قعيدة وعالة تريد من يحملها! قال ﷺ: «صنفان من أمتي إذا صلُحا صلح الناس؛ الأمراء والفقهاء»(6) فإذا كان الفصل بين المؤسستين مضمونًا لكان احتمال بقاء ساق واحد على الأقل موجودًا إذا ما دب فساد في الساق الآخر، أمْا وقد اندمجت المؤسستين (أو بالأحرى ابتلعت إحداهما الأخرى) فقد أمسى ضياع الكل هو الاحتمال الغالب.
إذن فليس المطلوب هو أن تعلو إحدى المؤسستين على الأخرى بحيث تنصهر إحداهما بالضرورة في إحداها بل أن تكون كل مؤسسة قائمة بذاتها بلا تداخل أو تشكيل قوى (فليس هدف الإسلام أبدًا تكوين دولة سياسية). فإذا استقلت المؤسسة الدينية تمامًا ─وهذا الأفضل لها─ وليس مجرد استقلال شكلي كما هو حاصل، فغاية ما عليها عمله تجاه المجتمع والدولة هو الترقية الأخلاقية والروحانية والتوجيه والإرشاد الثقافي الديني غير القسري، ولا حرج في أن تتبع الدولة والمجتمع توجيهات المؤسسة الدينية في تلك الحال، أو أن تؤيد المؤسسة الدينية توجهات الدولة ولها أن ترفضها دون تخطئتها بشكل مباشر إلا إذا أمرت بكفر صُراح لا لبس فيه ولا وجهة نظر.
قال رسول الله ﷺ أيضًا في حديث طويل: «.. ومن العلماء من يكون علمه بمنزلة السلطان، فإن رُدَّ عليه شيء من قوله غضب، فذلك في الدرك الثاني من النار..»(7) والمعلوم أنه لا يتصف الغضب بأنه غضب السلطان إلا إذا رافقه عقوبة على من رد عليه قوله! وإلا فليس لعالم دين شوكة الغضب السلطاني إلا إذا خالط السلطان الدنيوي.
شواهد من فعله ﷺ
ونجد في السيرة النبوية هذه السمة العلمانية التي نربو إليها، إذ قد مر ﷺ ذات مرة على قوم يلقحون نخيلهم فقال لهم: «لو لم يفعلوا لصُلح»(8) وكلامه صحيح؛ فوسائل التلقيح الطبيعية كثيرة، منها عن طريق الطيور أوالحشرات أوالرياح.. فما كان من القوم إلا أن كفوا عن التلقيح من وقتهم، امتثالًا لقول النبي، فلما كان وقت الحصاد إذا بالتمر لم يتم نضوجه! فقالوا للنبي ماحصل فما كان من النبي ﷺ إلا أن استدرك وقال: «إذا كان شيء من أمر دنياكم فشأنكم وإذا كان شيء من أمر دينكم فإليَّ»(9) لم يظهر الرسول ﷺ في ذلك الرأي ككاهن ديني يُلزم الناس إلزامًا على توجه معين وإلا فقد حُرموا، إنما حُب المؤمنين له هو ما دفعهم لالتقاط كلماته ﷺ كأنها أمر، كحال ابن رواحة لما جلس حين سمع صوته ﷺ يقول لمن في المسجد "اجلسوا" فجلس وهو في طريقه إلى المسجد وتوجه إليه زاحفًا(10) فما الدين إلا بلاغ. وكذلك ﷺ لم يبدو وقتها بصفة دنيوية حتى نقول أنه نبذ وابتعد عن الإطار الديني، بل نجده ميز ببساطة بين ما هو ديني ودنيوي. فعلى الرغم من كون الاتجاهين في تلك الحال صحيح، إلا أن مع كون الكل صحيح فهناك ما هو وأولى.
لم يتعنت النبي ﷺ لقوله الذي قال في أمر دنيوي، ولم يغضب غضب علماء السلطان، أو يتعصب لقوله؛ فهو لايعني نفسه بالنصيحة، بل عنايته أولًا وأخيرًا بأمته وصلاح الناس أجمعين. كما أنه لم يكن من المتكبرين ولم يمار أو يجادل ولم يقلل من فعلٍ صائب وإن صَدَرَ عن عدو، فما البال فيما فيه مصلحة الناس؟! إن هذا العمل النبوي ولو أنه يُظهر ويقر وجوب ترك التحكم القسري لرجل الدين بالدين في أمور الدنيا، إلا أنه لايقر إطلاقًا بفصل الدين عن الحياة كما يروج الجُهّل المغرضين، بل له أن يوجّه ويُرشد وينبّه وينصح.. فالدين اعتقاد خاص لايمكن لأحد مراجعته في نفس أحد إلا برضا وطيب خاطر وقبول مسبق، ولايجوز التفتيش عليه كأوقات الظلام الغابر في التاريخ الأوربي الوسيط، والتي أمسينا نحن المسلمين كحالها الآن، فأصبحت العلمانية ضرورة مُلحّة لنا لأجل ذلك. إنه لما استدرك النبي ﷺ فيما قال فاستدراكه هذا كان كأنه الوحي قدَّر وأخبر. أخبر بما نتابعه نحن اليوم فقال: «إذا كان شيء من أمر دنياكم فشأنكم وإذا كان شيء من أمر دينكم فإليَّ» وفي رواية قال: «أنتم أعلم بأمر دنياكم»(11) واليوم نقول كقوله ولانزيد فننادي بترك التحكم القسري لرجال الدين بالدين في أمور دنيوية محضة، لأن ذلك لا جعلنا دولًا دينية ولا دولًا علمانية، بل مسوخًا لا ملامح مفهومة لها.
تصحيح الفهم الخاطئ
ثم كيف تكون العلمانية (مجبرة على الفصل بين الدين والحياة) ─كما هو شائع خطئًا─ وأن الدين نفسه هو عبارة عن توجه فكري وعادات وعبادات ودعوات تعبر عن حرية مفترض أن لا يكون فيها ضررٌ أو ضرار. فمن الغباء أيضًا إشاعة هذا المفهوم الخطأ، إذ هو يعني إعدام الدين تمامًا، وإلا فماذا يُقصد بفصل الدين عن الحياة إلا إعدامه! فهذا هو سبب عدوانهم الجاهلي بلا روية للفهم ولا حكمة.
إن هذا القول والفعل النبوي الذي ذكرناه كأنه يُقدم القول المأثور الرجل المناسب في المكان المناسب، ويقر إقرارًا واضحًا على السمة الأبرز من السمات العلمانية والتي يرفضها كثير من الإسلاميين الخاصة منهم والعامة على السواء، بغير وعي، حميةً وجاهليةً منهم غير مطلوبة على الدين.. ونسأل هل كل حمية وعصبية يكون محلها صواب؟ لا نظن.
فماذا لو تعنت الرسول لقوله وأصر على ما أشار به! فقط لأنها مشورة من مقدس ولو كان غير متخصص؟ فهل سيستقيم الأمر؟ أم هل سيتضرر الدين بما لحق بالضرر الدنيوي؟ أم سيستمر الإخفاق الدنيوي حتى الفشل؟ لقد وضع الرسول الأمر في نصابه الصحيح، فكان واقعيًا متوازنًا ولم يُعرِّض علوية الدين لتقلبات الدنيا والدولة حبًا في جاه أو شهرة أو تسلط.. وفي نفس الوقت ارتئى واهتم بتقدم الدولة بأيدي من صلح بالتصرف والقيادة.

المصادر والمراجع
───────
(1).(ينص قانون انتخاب شيخ الأزهر الصادر في 2012 في مادته الخامسة على أن يكون مصريًا من أبوين مصريين مسلمين، وألا يكون قد اكتسب جنسية أية دولة أخرى فى أى وقت من الأوقات)
(2).(من المادة 5 من قانون انتخاب شيخ الأزهر: ويباشر عمله ─شيخا للأزهر─ اعتبارًا من تاريخ انتخابه ويصدر باعتماد تعيينه قرار من رئيس الجمهورية وتنتهى خدمة شيخ الأزهر ببلوغه سن الثمانين)
(3).(صحيح مسلم - كتاب الإيمان)
(4).(تنزيه الشريعة، ابن عراق الكناني 1/ 267 – تنبيه الغافلين للسمرقندي 675 – الفردوس للديلمي 4210 – الجامع الصغير للسيوطي 5683)
(5).(من المادة 5 من قانون انتخاب شيخ الأزهر: ويعامل شيخ الأزهر معاملة رئيس مجلس الوزراء من حيث الدرجة و الراتب و المعاش وكافة المزايا)
(6).(فضيلة العادلين 150 للسخاوي)
(7).(تنزيه الشريعة 1/ 269 لابن عراق الكناني)
(8).(صحيح ابن حبان 22)
(9).(المصدر السابق)
(10).(وفي رواية أنه كان عبدالله بن مسعود، «لما استوى رسول الله ﷺ يوم الجمعة قال: اجلسوا. فسمع ذلك ابن مسعود (وكان خارج المسجد) فجلس على باب المسجد، فرآه رسول الله ﷺ فقال تعال يا عبدالله ابن مسعود» تنقيح التحقيق 2/ 569 للدارقطني)
(11).(صحيح مسلم 2363)