الجمعة، 16 أكتوبر 2020

كلا، لم تهرب العائلة المقدسة إلى مصر. "الأسباب والتفاصيل"

شاعت جدًا حكاية أن السيد المسيح وأمه السيدة مريم العذراء زاروا مصر هربًا من اضطهاد الملك هيرودس، وقضوا فيها فترة، ثم عادوا إلى فلسطين.. وسجل الكتاب المقدس بشكل سريع هذا الموضوع وبدون تفاصيل في الأصحاح الثاني من إنجيل متى. لكن وبالاطلاع على طبيعة الوضع السياسي (الجغرافيا السياسية) في ذلك الوقت، نخرج بأن هذه الحكاية باطلة تمامًا؛ فهي إما أنها دخيلة على الكتاب المقدس وكُتبت في وقت متأخر، أو أنها التباس في معاني الكتاب. فلم يزر السيد المسيح ولا أمه مصر مطلقًا ولا في أي وقت.

مدخل

فمنطقيًا لا يقبل العقل السليم أن في حالة اضطهاد حاصلة أن يلجأ المُضطهدون إلى الهرب داخل أراضي الحاكم المُضطهِد أيضًا (كمن يهرب من الشرطة إلى داخل مركز الشرطة) فيجعلوا أنفسهم مكشوفين، ليس ذلك فحسب، بل إن مكان وملجأ الهروب (إلى مصر) هو بالإضافة إلى كونه داخل حدود الإمبراطورية الرومانية العتيدة، فهو مكان غريب كليًا على السيدة مريم وابنها ولا تربطهما بها أي علاقة، فضلًا عن اختلاف اللغة التي كانت ستسبب عائق كبير في التواصل الضروري مع عامة الناس لإمكانية التعامل، ما سيجعل من بروزهم كأغراب أمر ملفت جدًا ولن يتعسر على جنود هيرودس اللحاق بهم داخل حدود الإمبراطورية والإمساك بهم بسهولة إما بتتبعهم أو بالإرشاد عنهم بواسطة عيونه ورجاله.

وإنه من السذاجة أن يتصور الشخص الآن أن المطاردة وإمكانية القبض على هاربين في ذلك الزمن القديم أمر صعب وغير ممكن، بل على العكس تمامًا، فصعوبة الهروب والتخفي في ذلك الوقت كانت أعسر وأصعب مما هي عليه الآن في عصور التكنولوجيا الحديثة أيضًا.

فالمنطقي في حالة كهذه، وللأسباب التي ذكرناها، هو أن يكون اتجاه اللجوء للهرب شرقًا (خارج حدود الإمبراطورية الرومانية تمامًا وابتعادًا عنها) وليس غربًا إلى مصر حيث عمق الإمبراطورية الرومانية.

֎ الشواهد الكتابية وتوضيحها

لقد ورد في الكتاب المقدس: «إِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لِيُوسُفَ فِي حُلْمٍ قَائِلاً: "قُمْ وَخُذِ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَاهْرُبْ إِلَى مِصْرَ، وَكُنْ هُنَاكَ حَتَّى أَقُولَ لَكَ. لأَنَّ هِيرُودُسَ مُزْمِعٌ أَنْ يَطْلُبَ الصَّبِيَّ لِيُهْلِكَهُ". فَقَامَ وَأَخَذَ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ لَيْلاً وَانْصَرَفَ إِلَى مِصْرَ. وَكَانَ هُنَاكَ إِلَى وَفَاةِ هِيرُودُسَ. لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ الرَّبِّ بِالنَّبِيِّ الْقَائِل: "مِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْني"» (إنجيل متى 2/ 13-15) والنبي القائل هنا هو هوشع إذ ورد في نبوءته «لَمَّا كَانَ إِسْرَائِيلُ غُلاَمًا أَحْبَبْتُهُ، وَمِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْنِي» (هوشع 11/ 1)

֎ توضيحات هامة

والواضح أن القديس متى قد استأنس بآية هوشع النبي، كمطابقة منه لحدث هروب موسى من بطش فرعون مع حدث هروب المسيح من بطش هيرودس، ولم يقصد أبدًا إسقاط الحدث "الهروب إلى مصر والمجيء من مصر" على المسيح وأمه. فكلام النبي هوشع «وَمِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْنِي» في الواقع لا يخص يسوع المسيح إطلاقًا، لأن الآية التالية تحكي أحداث أخرى حول موسى وبني إسرائيل بوضوح حيث يقول: «كُلَّما دعوتُه [أي شعب بني إسرائيل] هرَبَ مِنْ وجهي. ذبَحَ بَنو أفرايم لِلبَعلِ وبَخَّروا لِلأصنامِ، وأنا الذي عَلَّمَهُمُ المَشْيَ وحمَلَهُم على ذِراعِهِ» (هو 11/ 2) فكلمة «ابني» الواردة في سفر هوشع تعني موسى وشعب الله إسرائيل. فكلام النبي هوشع إذن ليس نبوءة عن المستقبل، ولكنه تذكير بأفضال الله على بني إسرائيل. واقتباس القديس متى لم يكن استشهادًا على تحقق حدث، بل كان مقاربة لحدث مع حدث، مثلما نقول "وكأن التاريخ يعيد نفسه" ونذكر حادث من الماضي يشبه الحدث الحاضر، ولا يكون الحادث الماضي متعلق بالحدث الحاضر إلا من جهة تأثر الكاتب بالاستئناس فحسب.

طيب لماذا كان الهرب شرقًا هو الحاصل، ما الدافع الإضافي وراء ذلك مع ما قلناه؟!

֎ اليهود المجوسيون، ونبوءة ميخا، والرحلة الشرقية للعائلة المقدسة

قلنا في السابق أن هرب العائلة المقدسة (المسيح وأمه) ناحية الغرب (حيث مصر وعمق أراضي الإمبراطورية الرومانية) ليس بالأمر المُستساغ عقلًا أو منطقًا.. والآن نقدم الأمر المقبول دينيًا ومنطقيًا، فبالنظر إلى أحداث ذكرها الكتاب المقدس حيث قيل: «وَلَمَّا وُلِدَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ، فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ الْمَلِكِ، إِذَا مَجُوسٌ مِنَ الْمَشْرِقِ قَدْ جَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ قَائِلِينَ: "أَيْنَ هُوَ الْمَوْلُودُ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَإِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي الْمَشْرِقِ وَأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ"» (إنجيل متى 2/ 2)

ولما شاع الخبر شغل أورشليم ووصل للملك هيرودس فأصابه القلق، وجمع حاشيته

وسألهم: أين يولد المسيح بحسب النبوءات؟

أجابوه: إنه وبحسب النبوءة المدونة في سفر النبي ميخا (5/ 1) يولد المسيح في مدينة بيت لحم. (مت 2/ 3-6)

والنبوءة هي: «وأنت يا بيت لحم أفراتة [أي الخصبة] إنك أصغر عشائر يهوذا ولكن منك يخرج لي من يكون متسلطا على إسرائيل وأصوله منذ القديم منذ أيام الأزل. لذلك يتركهم إلى حين تلد الوالدة فترجع بقية إخوته إلى بني إسرائيل، ويقف ويرعى بعزة الرب وبعظمة اسم الرب إلهه فيكونون ساكنين لأنه حينئذ يتعاظم إلى أقاصي الأرض» (مي 5/ 1 اليسوعية)

والسؤال الآن، ما شأن المجوس بنبوءة تخص مستقبل اليهود وخلاصهم، ومدونة في كتب اليهود، لتدفعهم لاستفزاز ملك يهودي في أرضه؟!

֎ فمن هم هؤلاء الأغراب وما سبب مجيئهم؟!

الحقيقة أن هؤلاء الذين سماهم الكتاب المقدس مجوسًا ما هم في الواقع إلا يهودًا، أتوا من أرض المجوس، (وهم من يهود الشتات الذين بقوا بإرادتهم في أرض السبي بعد انتهاءه، وصاروا مختارين بين الرجوع أو البقاء، ومن بقي منهم فكان على رجاء كذلك في انتظار المُخلص بحسب ما بين أيديهم من كتب ونبوءات).

لقد دونت تلك النبوءة (للنبي ميخا) لظهور المسيح المُخلص قبيل اندلاع السبي الآشوري بسنوات قليلة فكانت كإنذار بسبب الحالة المتردية دينيًا واجتماعيًا لمملكة يهوذا، فما أن وقعت الواقعة بسبي آشور حتى اعتبر الشعب هذه النبوءة نبوءة مشؤومة بسبب تحقق النذر التي وردت فيها. ولكن وبعد انتهاء فترة السبي ورجوع من رجع من الأسباط (سبطي يهوذا ولاوي فقط) إلى أرض فلسطين وبقاء من بقى (وهم معظم الأسباط وعددهم 10) طال بهم الزمن حتى انحدروا كذلك وتردت أخلاقهم وعقائدهم، وتطلع المخلصين منهم إلى فحص الكتب والنبوءات المُبشرة لخلاص إسرائيل، فتحولت نبوءة ميخا الإنذارية إلى نبوءة بشارة حينئذ، فكانت هي التي جاء على صداها أولئك الذين سماهم الكتاب مجوسًا، لمجيئهم من أرض المجوس، والحق أنهم يهود، جاءوا بعلم وإيمان وتصديق مسبق للوقوف على تحقق النبوءة بولادة المسيح والبقاء معه وفي كنفه كما تنص النبوءة.

֎ رد فعل هيرودس

بالطبع استشاط هيرودس بغضب أخفاه، وحاول خداع هؤلاء الذين أتوا من أرض المجوس قائلًا لهم اذهبوا وابحثوا عن الطفل ثم تعالوا وأخبروني لأكرمه (وهو يريد التخلص منه)، فذهبوا، ولما وجدوا الطفل قدموا له هدايا. وانتهى الأمر هكذا في الكتاب المقدس وانصرفوا عائدين!! هل هذا منطقي؟؟ هل تكبد هؤلاء المسافرين عناء السفر والبحث لتقديم هدايا عينية فقط ثم يرحلوا دون أخذ أي وعد بضرورة الزيارة لأولك المنتظرين في الشرق!؟ خاصة وأن الظرف وقتها كان يدعو الجميع للهرب وترك المكان فورًا؟! فلماذا قفَلَ الآتين من الشرق عائدين إلى الشرق، ولماذا اتجهت العائلة المقدسة إلى الغرب! مع أن أمر المولود متعلق بنبوءة تهم القاطنين شرقًا والمنتظرين على رجاء. أيعود الذين أتوا نيابة عن شعوبهم بعد أن قدموا الهدايا وخلاص كده، خلصت الحكاية!!؟ (مت 2 : 7-12)

֎ النتائج المنطقية المتوقعة

أليس المأمول عند القاطنين في الشرق على أقل تقدير، وهم أسباط يهودية كاملة وليسوا مجرد جاليات متفرقة، هو حصولهم على وعد بزيارتهم؟!

أليس المأمول عند الزائرين أن يبقوا بجوار هذا المولود المقدس، لولا التهديد الهيرودي، أو أن يرافقونه عائدين معًا إلى المكان الذي قدموا منه ليأووه...؟

أليس المأمول عند أم يسوع ومرافقها يوسف النجار (وآخرين معهم سنذكرهم لاحقًا) أن يلجئوا إلى منطقة أكثر أمنًا؟؟!! فلماذا تُترك كل هذه المُقدمات المُعطاة وتُنبذ وكأنها نبوءة ما تحققت!؟؟

أعلَم بأن هناك من سيقول إن ذلك كان انصياعًا للأمر الإلهي «قُمْ وَخُذِ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَاهْرُبْ إِلَى مِصْرَ» وهذا ما سأفنده في الأسطر التالية.

֎ طفولة يسوع وقت رحلة الهروب وكتابة إنجيل مرقس

بخصوص مصر (الوثائق والتاريخ)

في الأصحاح الثاني من إنجيل متى يذكر الكاتب حدث ولادة يسوع المسيح وهروبه (إلى مصر) من هيرودس الملك، ولكننا لم نجد أي أثر كتابي قانوني أو حتى منحول لهذه الرحلة في مصر ليثبتها على عكس ما وجد في غيرها!

ففي مصر وجدت مجموعة كبيرة من الأناجيل المنحولة، ولكنها كلها كانت تتكلم بلسان يسوع وليست عنه كأناجيل الطفولة. حتى إنجيل توما القبطي (والذي اشتهر عنه أنه دخيل على مكتبة نجع حمادي المُكتشفة)[1] لم يتكلم عنه كطفل!

وكذلك الإنجيل المعروف بـ"إنجيل المصريين" المكتوب سنة 150م فهو أيضًا ينقل لنا حياة يسوع شابًا (وإن كان وصل إلينا غير مكتمل)[2]

أما إنجيل توما الإسرائيلي المتحدث عن طفولة يسوع المسيح حتى سن 12 سنة فلا توجد له آثار في مكتشفات مصر الأثرية، بينما تنتشر مخطوطات هذا الإنجيل ناحية الشرق حيث دون باللغات الأرمينية والجورجية والسريانية[3] ذلك فضلًا على أن القديس توما وهو المُبشر بالمسيحية في بلاد الشرق (الهند خاصة) والمعلوم أن حياة المسيح طفلًا سوف تُنقل عن الكبار المعاصرين لطفولته.

يختلف علماء المسيحية في المدة التي قضتها العائلة المقدسة في مصر، وكم كان عمر يسوع حين بدأت الرحلة، فمنهم من يقول أنه كان ابن عامين حين بدأت الرحلة[4] وهذا ينسف الرواية الإنجيلية في مت 2/ 1- 23 بكاملها لذلك تم حذف ذلك من طبعات السنكسار الحديثة الصادرة عن الكنيسة مؤخرًا.

أما عن المدة التي قضاها في تلك الرحلة فيقول البعض أنها تراوح السنة، وآخرين سنتين، وآخرين أربعة سنوات[5] وآخرين قالوا بأنها سبع سنوات[6] وذلك ربما لتبرير مسألة المعجزات التي حدثت في تلك الفترة على يد الطفل يسوع، والتي سنتكلم عنها تفصيليًا هنا لاحقًا.

وإذا افترضنا وجود المسيح وأمه في تلك الرحلة لمدة 12 عام استنتاجًا لما في لو 2/ 42، فإننا لا نجد صدى تفاصيل هذه الإقامة في أناجيل (ولو منحولة) كالتي وجدت ناحية الشرق تحكي تفاصيل تلك الفترة بمدتها (والتي ذكرناها أعلاه) فلفظة "منحول" لا تعني بحد ذاتها الهرطوقي، بل إن من الكتابات المنحولة ما يحتوي على عناصر لاهوتية وروحية معتبرة، خاصة فيما يتعلق بموضوع العذراء، غير أنها لم تجد محلًا لها في مجموعة الأسفار المقدسة القانونية..[7]

֎ تجاهل الطفولة!! بل تجاهل الفترة

وكما تتغافل الأناجيل القانونية ذكر طفولة يسوع، فهي تتجاهل كذلك فترة طفولة ابن خالته أليصابات "يوحنا بن زكريا"! مع أن التهديد الهيرودي بقتل الطفل يسوع كان شاملًا لجميع الأطفال دون السنتين، وقد كان يوحنا مولودًا منذ 6 أشهر فقط قبل ميلاد يسوع! ولكن مع هذا التجاهل من الأناجيل بين أيدينا، نجد في نفس الوقت صدى لهروب أليصابات مع ابنها يوحنا حيث اجتازت الجبال برفقة مريم مع ابنها يسوع في أحد الأناجيل الأخرى[8]

كانت رحلة العائلة المقدسة إذن وبهذا الشكل تتضمن السيدة مريم العذراء وطفلها يسوع مع يوسف النجار، بالإضافة إلى أختها أليصابات زوجة زكريا مع ابنها يوحنا بن زكريا، ورافقتهم أيضًا سالومة (وهي المعروفة في الأناجيل باسم مريم أم يعقوب ويوحنا "ويوحنا هذا هو نفسه مرقس كاتب إنجيل مرقس") وهي ربما تكون شقيقة العذراء مريم.

֍ كيف أُدخل اسم مصر في الموضوع؟

لقد دون القديس مرقس إنجيله سنة 65-70م وبدأه بالحديث عن بداية رسالة المسيح وبالتالي لم يأتي على ذكر رحلة الهرب التي حصلت في طفولة يسوع. في حين سجل القديس متى إنجيله سنة 80م وهو الوحيد الذي أتى على ذكر الرحلة إلى مصر بشكل مقتضب وسريع. ولقد عُرف عن القديس مرقس (وهو تلميذ للقديس بطرس) نقله الكثير مما سمعه عن بطرس الرسول، لكن بدون ترتيب للأحداث[9] ويجب أن لا يغب عن البال مع ذلك أن الدراسات النقدية الحديثة للإنجيل قد أثبتت أن الأناجيل القانونية المعروفة الأخرى قد نقلت عن مرقس[10]، كما لا يجب أن يتصور أحد أن القديس مرقس قد اكتفى طوال حياته بكتابة إنجيله "المختصر" هذا الذي بين أيدينا فقط، بل إن هناك جدل كبير [مثلًا] حول صحة ما يُعرف في الأوساط العلمية للكتاب المقدس بإنجيل مرقس المطول، والذي يُعد إنجيل مرقس الحالي هو اختصار له (أنشئ للتداول السهل).

وفي رسالة القديس بطرس [مُعلم مرقس] الأولى والتي كانت موجهة أساسًا ليهود الشتات والمسيحيين المنبثقين عنهم[11] يقول في مقدمتها: «من بطرس، رسول يسوع المسيح، إلى المختارين المتغربين المشتتين في بنتس وغلاطية وكبدوكية وآسية وبيثينية، إلى الذين اختارهم الله الآب بسابق علمه وقدسهم بالروح ليطيعوا يسوع المسيح ويتطهروا برش دمه. عليكم وافر النعمة والسلام»[12] فحدد في مطلعها وجهة الرسالة، ثم قال في نهايتها، فقرة التحيات الختامية: «أكتب إليكم هذه الرسالة الوجيزة بيد سلوانس، وهو عندي أخ أمين، لأشجعكم بها وأشهد أن نعمة الله الحقيقية هي ما ذكرت، فاثبتوا فيها. كنيسة بابل، وهي مثلكم مختارة من الله، تسلم عليكم. ويسلم عليكم مرقس ابني. سلموا، بعضكم على بعض، بقبلة المحبة. السلام عليكم جميعا، أنتم الذين في المسيح»[13] فالواضح هنا أن الرسالة مكتوبة من بابل "المعروفة" في أرض العراق وفارس. ولكن هناك نزاع صغير ينشأ هنا (ففي الأوساط المسيحية العامة فإن رحلات بطرس لم تتطرق إلى الشرق خارج الإمبراطورية الرومانية، إنما كانت محصورة ما بين آسيا الصغرى وفلسطين) ولكن يفسر الكاثوليكيين كلمة بابل هنا على أنها رمز لمدينة روما عاصمة الإمبراطورية الرومانية![14] على الرغم من عدم وجود ولا آية واحدة في الكتاب المقدس تشير إلى زيارة القديس بطرس إلى روما! فيما تذهب الكنيسة الأرثوذكسية إلى تفسيرها بشكل ركيك على أنها تلك الحامية الرومانية العسكرية الواقعة على نيل مصر جنوب القاهرة حاليًا[15] ومع هذا التضارب في التفسير، لا نجد بدًا من فهم الكلمة على أصلها الشهير "بابل" المعروفة في الشرق حيث فارس والعراق، فهي من ناحية ليست كلمة في رؤيا ليُحمل تفسيرها على التأويل، ومن ناحية أخرى ليست موقعًا مصريًا ذائع الصيت ليُصدَّر اسم مصر به، على عكس بلاد الشرق وقتها، حيث عُرفت بابل كدولة بل كمملكة وإمبراطورية.

֍ خلاصة أولية

إذن، فإخراج الكلمة (في موقعها بالرسالة، تحيات ختامية) من معناها الظاهري الواضح إلى آخر دون قرينة فقط بحجة الرمزية لهو التدليس في الواقع، ثم اعتبارها تعبيرًا عن مصر هو تكلف فج وغير معقول.

لذا، فإن الفقرة الإنجيلية في مت 2/ 1- 23 الخاصة بولادة يسوع وهروب العائلة المقدسة إلى مصر إنما هي مشكوك في صحتها كليًا، أولًا بعدم انطباق أحداثها مع التاريخ، وثانيًا في بالتضارب الحاصل بين العلماء بخصوصها وزمنها، وثالثًا باقتصار ذكرها في ذلك الموضع فقط وحصرًا من بين كل الأناجيل، ما يلقي بالظل حول كتابتها عن نقل شفهي غير منضبط[16]، ورابعًا بسبب الإدخال القسري لمصر من خلال تفسيرات مذهبية تنازعية في رسائل القديس بطرس، واعتبارها موضع لكنيسة قائمة قبل دخول القديس مرقس إليها بفترة!

֎ فحص المعجزات المحكية التي أجراها الطفل يسوع

المعجزات الشائعة تنفي الزيارة

يستقر في ذهن عموم المسيحيين أن رحلة العائلة المقدسة (التي يعتبرونها إلى مصر) قد استغرقت بحد أقصى سنتين ونصف، منذ ولادة يسوع شاملة الذهاب والرجوع، ولكن وجد أن هذه المدة القصيرة لا تتناسب إطلاقًا مع شكل المعجزات الحاصلة على يد يسوع حينها، فشرع قسم آخر من الآباء لتكبير هذه المدة المنقضية بهدف السيطرة على شكل المعجزات وجعل من الإمكان إجراءها؛ ولكن وجد أن ذلك أيضا يصطدم مع لزوم رجوع الطفل يسوع إلى أرض فلسطين قبل نهاية حكم أرخيلاوس الذي حكم 6 سنوات منذ وفاة أبيه الملك هيرودس.

فيذكر أن يسوع وأمه بقيا في مصر إلى وفاة هيرودس ثم عادا فورا بعد وفاته، يعني أنهم قضيا في مصر سنة أو ربما أقل؛ فبحسب الكتاب المقدس أن وفاة هيرودس كان إيذانًا بالرجوع (مت 2/ 19-20) ويسوع المسيح ولد في نهاية سنة 5 ق. م أو أوائل سنة 4 ق. م وهيرودس مات سنة 4 ق. م وبهذا تتحول معظم المُعجزات التي تُحكى في مصر عن كرامات العذراء وابنها على مسار سفرهما لتكون ضربًا من الخيال الشعبي بسبب هذه المدة القصيرة للغاية.

1. مثال معجزة رسم يسوع لشكل بئر على الأرض (في تل بسطا بمحافظة الشرقية) فنبعَ بئر في هذا المكان بالفعل. فإذا كانت المعجزة في تفجر البئر، وليس في الرسم فنقول إذن أن إمكانية الطفل ليرسم دائرة (لتدل على شكل بئر) علميًا لا تكون إلا من سن 3 إلى 5 سنوات في حين أن مدة هذه الرحلة المزعومة إلى مصر من بدايتها وحتى نهايتها كانت عامين وستة أشهر وعشرة أيام!

2. معجزة أخذ المسيح العصا التي كان يتوكأ عليها يوسف النجار وكسَّرها قطعا (في عين شمس بالقاهرة) حيث غرسها ووضع يده في الأرض فنبع الماء فخرج نبات البلسان الذي يستخرج منه زيت البلسم.. ففضلًا عن كون الطفل أقل من عام محال عليه القيام بهذا الأمر الذي يحتاج إلى جهد عضلي وحركي كبير حيث تبدأ هذه المهام مع الطفل بداية من سنة 4 سنوات فما فوق نجد أصداء هذه القصة بارزة في أناجيل شرقية[17]

3. مثال معجزة جبل الطير (سمالوط بمحافظة المنيا)، والتي تقول إن صخرة كادت تقع من أعلى الجبل على أهل القرية فأشار إليها يسوع الطفل بكفه فانطبع الكف على الصخرة فوقفت من فورها وبقيَ طابع الكف الصغير على الصخرة إلى الآن وصارت كمزار سياحي) وهنا ننظر إلى وقت المشي الطبيعي للطفل وهي من عمر 14 إلى 17 شهر، وكذلك فيما يتعلق بإشارات اليد المحددة. وهذا ما لم يتسنى للطفل يسوع في مصر إذ قضى فيها أقل من عام بحسب العهد الجديد!

֍ مخترع المُعجزات والرد عليه

لقد بدأ وضع مسار العائلة المقدسة (في مصر) ومعجزات العذراء وابنها بداية من القرن الخامس الميلادي لما قام بطريرك الإسكندرية الثالث والعشرون البابا ثاؤفليس [385-412] بتأليف ما يُعرف بميمر (أي سيرة) رحلة العائلة المقدسة يعدد فيه هذه المعجزات ضمن ذكره مسارًا لهذه الرحلة، وذلك بناء على حلم ادعى أنه رأى فيه العذراء مريم وحكت له تفاصيل مسار تلك الرحلة بما فيها!

ولكن وفي تعليق للقديس يوحنا ذهبي الفم بطريرك القسطنطينية [398-407] أدلى به بين العامين 386 و 398 يقول فيه: "أن يسوع لم يجترح أي نوع من المعجزات قبل اعتماده، وأن ما ذُكر خلافًا لذلك عن أيام طفولته هو من اختراع بعض الكذبة"[18]

الخلاصة                         

بذلك، وبعد ما قدمناه، يكون الإصحاح الثاني من إنجيل متى في حاجة لإعادة نظر في قانونيته، فهو يتعارض مع نفسه تارة، ومع التاريخ تارة أخرى، ولا يلقى دعمًا كتابيًا في أي مكان.

فلو أن الأمر الإلهي متعلق بحفظ نفس الطفل يسوع خصوصًا لما احتاج ذلك تكبد عناء السفر لمسافة هذا قدرها للهرب والمغامرة في عمق الإمبراطورية الرومانية مع العلم الإلهي المسبق بوفاة هيرودس بعد أشهر فقط... إذ يلقي هذا بالشكوك حول مدى معرفة الوحي الإلهي بالأحداث المستقبلية. ولكن ذلك غير منطقي، لذا فالرواية التي تقول ببقاء يسوع وأمه في مكان اللجوء لمدة 12 سنة هي الأجدر بالتصديق، خاصة وأن الأناجيل الإزائية تغفل هذه الفترة تمامًا من حياة يسوع المسيح. وإن البقاء لمدة 12 سنة في مكان لهي كفيلة لزرع أساس مقبول لما هو قادم، وستتطلبه مهمة المسيح في المستقبل تجاه قومه كما أخبر الإنجيل[19]

 

المراجع والهوامش


[1] (تاريخ الفكر المسيحي عند آباء الكنيسة، تأليف المطران كيرلس سليم بسترس، الأب حنا الفاخوري، الأب جوزيف العبسي البولسي المكتبة البولسية ص46)

[2] (المرجع السابق ص53)

[3] (المرجع السابق ص47)

[4] (كتاب السنكسار الجامع لأخبار الأنبياء والشهداء والقديسين المستعمل في كناس الكرازة المرقسية في أيام وآحاد السنة التوتية، الأنبا بطرس الجميل أسقف مليج، الأنبا ميخايل أسقف أتريب، والأنبا يوحنا أسقف البرلس وغيرهم من الآباء القديسين، مكتبة المحبة القبطية الأرثوذكسية بالقاهرة 1951م، ص165، ج2 – في عهد البابا يوساب الثاني بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية)

[5] (تاريخ الأمة القبطية، حلقة 2 - لجنة التاريخ القبطى - القاهرة 1935 ص40؛ ومختصر تاريخ الأمة القبطية في عصري الوثنية والمسيحية لسليم سليمان ص269. وقال الأنبا غريغوريوس أسقف عام للدراسات العليا اللاهوتية والثقافة القبطية والبحث العلمي في كتاب الدير المحرق، تاريخه، وصفه، وكل مشتملاته سنة 1992م ص89: "وفي اعتقادنا أن المدة تزيد قليلًا على ثلاث سنوات وقد تبلغ أربع سنوات")

[6] (مقال للأب يعقوب موزر ص233)

[7] (تاريخ الفكر المسيحي عند آباء الكنيسة، ص36- 37)

[8] (إنجيل يعقوب التمهيدي – فقرة الخوف من هيرودس)

[9] (مقدمات في طقوس الكنيسة، الملامح الوثائقية والليتورجية لكنيسة الإسكندرية في الثلاثة قرون الأولى للراهب القس أثناسيوس المقاري ط1، س2011، ص41)

[10] (المرجع نفسه ص72)

[11] (الكتاب المقدس، الرهبانية اليسوعية، رسالة القديس بطرس الأولى، مدخل، ط3، س1988، ص735)

[12] (1بط 1/ 2)

[13] (1بط 5/ 12-14)

[14] (القراءة الرعائية للكتاب المقدس، الترجمة العربية المشتركة، جمعية الكتاب المقدس، إصدار أول، ط4، س2015، الحاشية ص466)

[15] (مقدمات في طقوس الكنيسة، الملامح الوثائقية والليتورجية لكنيسة الإسكندرية، مرجع سابق ص47)

[16] (المرجع السابق ص42 نقلًا عن يوسابيوس القيصري "تاريخ الكنيسة")

[17] (إنجيل توما الإسرائيلي 12/ 1-2 و13/ 1-2 وقد كان ذلك بعد سن السادسة)

[18] (جوزيف قزي وإلياس خليفة، "الأناجيل المنحولة" من سلسلة الكنيسة في الشرق 8، ط2004 ص21)

[19] (إنجيل يوحنا 10/ 16-17)