الأحد، 2 مايو 2021

عقيدة الصعود، كيف ينفيها الكتاب المقدس عقليًا في خمسة أدلة

منذ فترة قدمت إحدى الصفحات المسيحية على فيسبوك سؤالاً حول موضوع صعود السيد المسيح وكان كالتالي: «هل صعد المسيح إلى السماء بعد القيامة بالجسد؟»

فدخلت في نقاش لطيف مع الأخوة الأفاضل القائمين على الصفحة وطلبت بدوري طلبًا وقلت: في حين يتوفر أكثر من دليل عقلي "كتابي" على عدم الصعود، أطلب حضراتكم بتقديم الأدلة العقلية على الصعود من الكتاب المقدس نفسه.

فالجدير ذكره أن كل ما يتم تداوله بخصوص الصعود هو محض كلام، لا تؤيده حجة ولا برهان كتابي، فضلًا عن العقلي في مقابل وجود أدلة عقلية عكسية.

ولمّا لم أحصل من حضراتهم ولا من الصفحة على جواب على طلبي هذا (وقد كان بيننا قبلها وفي مواضيع أخرى كثيرة نقاشات طويلة) أقدمت على تدوين ذلك هنا:

[الدليل الأول]

عقليًا، لا يدل على صعود حقيقي إلا نزول حقيقي[1]. فإذا كان خبر الصعود قد رواه رواة لم يكونوا حاضرين المشهد أصلًا[2] كالقديسَيّن مرقس ولوقا، وبنص مكتوب غير متصل[3] (كما سنبين) ليبقى نصًا خبريًا يحتمل أن يكون صادقًا، كما يُحتمل أن يكون غير ذلك.. وإن تم الجزم بصدقه من فئة معينة، فلا يُمكن تخطئة فئة أخرى لم تصدقه، لأنه في النهاية غير مبني على اتصال أو تواتر[4] أو شهادة عيان[5] أو تبرير عقلي معتبر يؤخذ به باطمئنان[6]. بل يكون اعتباره مجازًا[7] أفضل وأرقى للعقل بدلًا من زج الخبر الغريب والمطالبة بتصديقه عميانًا.

لقد قلنا أنَّ النزول الحقيقي لهو دليل عقلي جازم ونهائي على الصعود الحقيقي. لكن إذا تم نفي عملية النزول الحقيقي واعتبارها بالأولى تصور مجازي للنزول، فكذلك بالتبعية يكون وصف الصعود بأنه كان عبارة عن مجاز واستعارة جمالية لا أكثر.

شواهد كتابية

قال السيد المسيح مُقررًا قاعدة هامة مفادها: «وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء»[8] ولما كان وجود السيد المسيح بواسطة الولادة المادية من عذراء، ولم يُرى نازلًا متدليًا من فوق إلى تحت، ولم يُكتب عنه ذلك في نص مقدس[9]، فبالتالي كان وصفه لنفسه حين قال: «لأني قد نزلت من السماء»[10] إنما هو وصف مجازي يعبر عن مقام روحاني. فلما ثبت أن النزول إنما هو نزولًا معنويًا وليس حقيقيًا، إذ لم يحدث أن جسد المسيح نزل حقيقةً من السماء، على الأرض، إلا أنه ولد من جسم أمه بالطبيعة، ثم حلّت عليه التفضيلات الروحانية.. فكذلك كان الصعود الأخير (بعد قيامته[11]) يكون مجازيًا ومعنويًا، وليس حقيقيًا مرئيًا بأي حال من الأحوال، بدليل القاعدة العقلية التي تقرر المجاز «وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء» فلما لم ينزل الجسد بالحقيقة أصلًا، فأنى له أن يصعد حقيقةً؟!

تصديق المجاز

وفي موضوع مشابه شهد به السيد يسوع المسيح بنفسه، وأقرّه بوضوح، بل حثَّ كل ذي عقل على أن يقبله، وهذا الموضوع هو نبوءة نزول إيليا. ويمكن الإلمام بها من خلال هذه الشواهد من الكتاب المقدس:

صعود النبي إيليا وورد ذكره في: [ملوك الثاني: 2/ 11]، نبأ نزول إيليا وذُكر في: [ملاخي: 4/ 5-6]، تحقق نزول إيليا وذُكر في: [متى: 11/ 14-15].

[الدليل الثاني][12]

وبناء على "أنه لا يدل على صعود حقيقي إلا نزول حقيقي، وأنَّ النزول الحقيقي لهو دليل عقلي جازم ونهائي على الصعود الحقيقي". فلما قام السيد المسيح بوصف يوحنا المعمدان بأنه هو إيليا المنبئ بقدومه قال: «وإن أردتم أن تقبلوا، فهذا هو إيليا المزمع أن يأتي. من له أذنان للسمع فليسمع»[13] وقد كان سبق وصُوِّرَ في الكتب حادث صعود إيليا إلى السماء بالقول: «وفيما هما يسيران[14] ويتكلمان، إذا مركبة من نار وخيل من نار ففصلت بينهما، فصعد إيليا في العاصفة في السماء»[15] فها هو ذا حادث على ما يبدو وكأنه صعود حقيقي، غير أنه في الواقع الفعلي ما هو إلا موت (وسنذكر لماذا جزمنا أنه موت بعد قليل).

ثم أُخبر في الكتاب على إثر ذلك الصعود فيما بعد بنبوءة مفادها أن إيليا الصاعد آنفًا سيأتي ثانية؛ فقيل: «ها أنا ذا أرسل إليكم إيليا النبي قبل مجيء يوم الرب»[16].

فهكذا الحال حصل على ما يبدو أنه صعود، ثم أنبئ بأن الصاعد سيأتي في يوم الرب.. في حين أخبر السيد المسيح بنفسه عن يوحنا المعمدان أنه هو إيليا الصاعد المُزمع أن ينزل. ما يعني أن إيليا الحقيقي قد انقضى أجله ومات، وأن يوحنا هو بمثابته.. ولقد اتفق جميع المسيحيين على ذلك وأجمعوا؛ أولًا على أن صعود إيليا يعنى موته حتمًا، وثانيًا أن نزوله فيما بعد يعني قدوم مثيله بالتأكيد.

ثم إن يوحنا المعمدان لم نسمع عنه، ولم يُذكر حوله، أنه قد نزل من السماء نزولًا حقيقيًا، وإنما ولد من بطن أمه أليصابات ولادة جسدية مادية طبيعية ومعتادة.

شغل عقلك كما قال المسيح

لذا فإن استشهاد السيد المسيح بانقضاء أجل إيليا في زمنه، وأن يوحنا هو مثيله الذي أتى في وقته المحدد له، فأثبت بذلك أن الصاعد إنما هو ميت، والنازل إنما هو آخر وكذلك صار معه[17].. فمن الأسلم أن نبتعد عن الازدواجية في فهم هذه الأمور؛ فإن السيد المسيح الذي طالما تكلم بالأمثال، أشار لمثيل إيليا الصاعد المزمع أن ينزل وقال بعلو صوته «مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ»[18] في إشارة لضرورة تشغيل العقل في ذلك، وورود تكرار مثل ذلك مستقبلًا

[الدليل الثالث]

ويعتمد معظم الأخوة المسيحيون لإثبات أي خبر ورد عن السيد يسوع المسيح في الإنجيل على القول بأنه قد وصلنا مُثبتًا عن شهود عيان. وفي حالتنا هذه فقد قدم جميع المحاورين ومديري صفحة الخدمة العربية للكرازة بالإنجيل[19] نصوص الصعود إلى السماء اعتمادًا منهم على مجرد ورودها في الكتاب المُقدس، ودون إعمال العقل فيها.. ولما طولبوا بدعم الحدث عقلانيًا من الكتاب قدّموا ما أسموه بـ "شهادة الشهود" الذين وصفوهم بالشهود العيان[20] وهم تلاميذ يسوع المسيح!

في هذا الدليل أود مبدئيًا أن أنبه أعزائي المسيحيين وغيرهم ممن لم يعلموا، أنه ليس هناك نص مكتوب عمن يسموا شاهد عيان واحد عاين حدث الصعود بنفسه، فالحاضرين وقتها كانوا التلاميذ الأحد عشر تلميذًا حصرًا وهم: بطرس، أندراوس، يعقوب زبدي، يوحنا زبدي، فيلبُّس، برثولماوس، توما، متَّى، يعقوب حلفي، لبَّاوس المُلقب بتداوس وسمعان القانوي[21]

أما الذين وضعوا حدث الصعود في كتاباتهم، التي اعتُبرت مُعتمدة فيما بعد، فهما اثنين، وليسا من التلاميذ الأحد عشر، ولم يعاينا الحدث أصلًا.. وهما مرقس ولوقا[22]! فهذا [أولًا] يدحض تمامًا أسس ادعاء وجود شهود عيان مباشرين على الحدث.

كما أننا نجد أن تدوين مرقس لإنجيله يرجع إلى سنة 65-70م[23] أي بعد حوالي 40 سنة من رحيل المسيح، أما إنجيل لوقا ورسالته التي سماها "أعمال الرسل" فيرجع تاريخ تدوينهما إلى سنة 80م[24] أي بعد حوالي نصف قرن من رحيل المسيح. وهذا [ثانيًا] يعني انهيار أسس الاتصال والتواتر وهو المُثبت الأول والأهم للمصداقية الموضوعية من عدمها.

وعلى الرغم من أن القديسَيّن متى ويوحنا[25] وهما أصحاب أناجيل معتمدة، وهما من التلاميذ الشهود على آخر لحظات المسيح قبل أن يرحل، إلا أنهما لم يرويا عن زعم ذلك الصعود شيئًا يُذكر أصلًا، ذلك لكي يتسنى لنا القول باحتمالية أن كل من مرقس ولوقا نقلاه عنهما فيما بعد![26]

خلاصة

لا يسع عاقل بعد ذلك إلا استلام رواية كل من مرقس ولوقا اللذَيّن لم يكونا حاضرين للحدث ولا من التلاميذ المقربين أصلًا ولا من الناقلين منهم لا يسع العاقل إلا ليفهم روايتهما بأسلوب أدبي مجازي فحسب؛ وهذا الأسلوب يحتاج إلى تأويل، ولا يؤخذ على ظاهره أبدًا، وتُعطىَ لذلك الأولوية الحتمية إذا كنا لا نريد أن نرفض الرواية بالكلية؛ فبعدم وجود شهود عيان من الذين وثّقوا لزعم الصعود. فلا هم رأوا بأنفسهم شيئًا ولا يبدو أنهم سمعوا حتى عن شهود حاضرين! لأن الذين يُتوَقع أنهم حضروا وعاينوا، لم يوثقوا بدورهم تفاصيل هذا (الحدث الهام).. فنضطر بذلك إلى وصف توثيق من وثّق وهو لم يرى، إذ لم يحضر ولم يسمع، بأن توثيقه هذا ما هو إلا محض خيال خصب أراد به إبراز حدثٍ ما فبالغ فيه بالمجاز والاستعارة...

استحالة وجود شهود عيان

والآن واستمرارًا للموضوع الذي أثارته صفحة الخدمة العربية للكرازة بالإنجيل وبعد أن أثبتنا انعدام وجود شهود عيان من الذين سجّلوا؛ سنقدم دليلًا جديدًا على عدم واستحالة وجود شهود عيان على حدث مثل ذلك أصلًا.

[الدليل الرابع]

يختصر حضرة مرزا غلام أحمد المسيح الموعود والإمام المهدي هذا الدليل العقلي في جملة واحدة فيقول عليه السلام: «وكأنهم رأوا بأم أعينهم عيسى جالسًا على كرسي الألوهية»[27]

في الواقع إننا علينا أن نقبل كل نظرية إذا كانت فقط مدعمة بالأدلة، أما إذا كان يعوز إثباتها دليل، فالحق أنه لا يسعنا قبولها ولسنا مؤاخذين. فإذا كان وصف أحد الذين وثّقوا الحدث وادّعى بما لم يرى كان هكذا: «ثُمَّ إِنَّ الرَّبَّ بَعْدَمَا كَلَّمَهُمُ ارْتَفَعَ إِلَى السَّمَاءِ، وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ اللهِ»[28] فأي عقل يقبل هذا إذن؟! إذ هل رأى مرقس الكاتب لإنجيله هذا الذي قاله، هل رأى بعينيه هذا حقًا وفعلًا؟؟!

بالطبع كلا، فلم يكن حاضرًا أصلًا. إذن فهل رأى التلاميذ الحضور بدورهم ذلك؟ يعني هل رأوا موضع جلوس الله، وبالتالي حددوا يمينه، ومن ثم رأوا عند هذا اليمين موضع جلوس آخر صعد إليه السيد يسوع المسيح فجلس عليه؟!!

ونحن والعاقلين نجزم باليقين بأن ذلك لم يحدث. أي لم يحدث أن رأى أحد من الحاضرين وقتئذ ذلك التفصيل، ولا حتى شيء منه. فلو افترضنا جدلًا أنهم كانت لديهم قدرة الرؤية التلسكوبية لمعاينة ذلك الصعود الفلكي ومن ثم الجلوس عن يمين الله.. فأين نذهب من قول يسوع المسيح نفسه في إنجيل يوحنا: «اَللهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ»[29]؟! فلو قيل بأن ذلك التقرير كان قبل القيامة وتمام الفداء، وقد تم فيما بعد إعطاء التلاميذ القدرة على ذلك، فصاروا قادرين...! فأين نذهب مما قرره بولس أيضًا حين أكد قائلًا عن الله دائمًا: «سَاكِنًا فِي نُورٍ لاَ يُدْنَى مِنْهُ، الَّذِي لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَاهُ»[30]؟

الفهم الصحيح للحقيقة

إذن فليس تأكيدنا الجازم بأن ذلك الذي كتبه القديس مرقس عن يسوع بأنه «جَلَسَ عَنْ يَمِينِ اللهِ» أنه في الواقع لم يحدث ولم يُعاينه مُعاين ولا يستطيع.. ليس كل هذا من عندنا، ولا من بنات أفكارنا، ولا هو محض فهمنا.. وإنما هو بقرارات سابقة ولاحقة من الكتاب نفسه الذي يؤمن به المسيحيون كافة. فأين تذهبون؟!

إننا علينا أن نفهم الحقائق قبل فوات الأوان، وإن حقيقة (الجلوس عن يمين الرب) هذه إنما فصّلها السيد يسوع المسيح والكتاب المقدس نفسه في مواضع أُخرى، بعيدًا عن هذ الفكر الخرافي الذي دحضناه وفندناه عقليًا، بآيات وشواهد من الكتاب المقدس نفسه وليس من خارجه. وسنُعَرِّج عليها لاحقًا في أدلة أخرى جديدة

[الدليل الخامس]

انتهينا في الدليلين السابقين بأنه ليس من الذين سجّلوا لحدث الصعود المزعوم وهما اثنين مرقس ولوقا شاهد عيان واحد حضر؛ وإنه حتى من الذين حضروا وقت الحدث ومنهم من له تسجيلًا لحياة المسيح، لم يذكر مثل هذا الزعم.. ولقد أثبتنا عقليًا، مدعومًا بالنقل، أنهُ لا يُقبل مثل نص كتبه مرقس قائلًا: «ثُمَّ إِنَّ الرَّبَّ بَعْدَمَا كَلَّمَهُمُ ارْتَفَعَ إِلَى السَّمَاءِ، وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ اللهِ».

لقد ادعينا أن قول مثل هذا «جَلَسَ عَنْ يَمِينِ اللهِ» هو من قبيل المجاز والاستعارات، وهو من باب التصورات الجمالية الرفيعة جهة المعتقدات المُقدسة، وكان لزامًا علينا أن ندعم ادعاءنا هذا بدليل كتابي كما هو منهجنا في هذه المواضيع العقلية المُقدمة لإخوتنا من المسيحيين.

شواهد كتابية

ولقد قرر أحد الذين سجّلوا الحدث دون معاينة مباشرة منه وهو القديس لوقا فقال: «لأَنَّ دَاوُدَ لَمْ يَصْعَدْ إِلَى السَّمَاوَاتِ. وَهُوَ نَفْسُهُ يَقُولُ: قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ»[31] وهذا التقرير رائج جدًا في الكتاب[32] فهو نبوءة إذن. ومن العقل استلامها هكذا: ـ

إذا كان التجسد حقيقة فعلًا، فلا يمكن أن يكون هذا التجسد ملء السماوات والأرض، بل في شخص يسوع المسيح فقط قد كان، أليس كذلك؟! فإذا كان كذلك. فإن القول بشرط الجلوس عن يمين الله هو حدث صعود واقعي حقيقي ومادي، لأصبح جواب الشرط الذي هو "حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ" في خبر كان، إذ سيكون تحققه وهمًا معنويًا وليس بالحقيقة هو..

نبوءة انتصار!

فإذا كان يسوع صعد صعودًا ماديًا حقيقيًا حقًا، فلقد تحقق بصعوده المادي هذا شطر النبوءة الأول الذي هو «اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي» بشكل مادي فقط، ولكن يبقى شطرها الثاني وهو الغاية المتوخاة من النبوءة في حد ذاتها لتبقى بدون تحقق فعلي حقيقي، وإنما تبقى الغاية من النبوءة في إطار الفهم الروحاني فحسب! وهذا ليس فهمًا منطقيًا ولا عقليًا؛ فإما أن تكون النبوءة كلها مادية وإما أن تكون كلها روحانية. ولكن إذا عزمنا على شطرها تعسفًا، فالعقل إذن يُحتًّم أن تكون النتيجة ملموسة، لأنها مناط التصديق الفعلي. بمعنى أننا لو لم نرى تحقق خبر أن العدا أصبحوا أذلة تحت قدمي يسوع يطئهم بها فليس لنا أن نصدق كامل الخبر، ولسنا مؤاخذين أيضًا.. لأنه إن كان حدث الصعود قد عاينه جدلًا أحد عشر تلميذًا فقط، فهو يبقى غير ملزم ليصدقه آخرين لم يروا، خاصة مع مخالفته صراحةً لآيات من الكتاب. وإنَّ حدث ذِلة للأعداء فسيكون ذلك مرئيًا للجميع فهو الأولى بالتحقق المادي إذن.

فالسؤال الآن هو: هل تحقق شطر النبوة الثاني والأهم الذي هو «حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ»؟؟

سبر كتابي

الحق أن ذلك لم يتحقق لا بشكل مادي ولا حتى بشكل معنوي، فالحاصل أن المسيح اعتُقل[33]، وحوكم[34]، ونال تُهمة عن شهود زور[35]، وبُصق عليه، ولُطم[36]، واستُهزئ به[37]، فاقتيد ليُجلد، ثم اقتيد ليُصلب[38]، وعُرّيَ، وألبس لباسًا ساخرًا[39]، ثم وضع على صليب وأوذي، وتألم، وطُعن[40]، ثم وضع في قبر هكذا سريعًا وبلا مراسم دفن، ثم تُرك[41].. الحق أن كل هذا يعبر عن عكس ما جاء بالنبوة "حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ" بشكل تام، فكان يسوع في الواقع هو موطئًا لأقدام عدوه وبشكل سافر!! (ولكن فلنقل إن كل ذلك كان من ضرورات الفداء) إلا أنه بعد ذلك أي بعد تمام الفداء بعد الصليب، وبعد القيامة، كان متخفيًا أيضًا[42]، فلم يلتق بأعدائه لمواجهتهم، ليتسنى لنا حتى إمكانية القول بتحقق تلك النبوءة التائهة ولو بلمحة ضئيلة في الواقع! بل بالكاد التقى بمريديه[43]!! ثم ابتعد قدر الإمكان عن وجود مطارديه[44]، ثم هرب؛ وانتهت القصة

سبر تاريخي

وفي الواقع لم تشم المسيحية نفَسَهَا بشيء من الحُرية إلا في القرن الثالث من ميلاد المسيح حين أقر الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الأول مرسومه الشهير بمرسوم ميلان 312م[45] حيث نص هذا المرسوم على التصريح لمعتنقي الديانة المسيحية بأن يمارسوا طقوسهم الدينية علنًا؛ وهذا المرسوم كما هو ثابت تاريخيًا ليس نابع من إيمان ديني مطلق من الإمبراطور قسطنطين، بل كان له أسباب سياسية محضة[46]..

فأين تحقق النبوءة؟! في الواقع لا يهتم كافة المسيحيون بكل هذا.. أو لعلهم لا يلاحظونه، المهم أن يكون شطر مقدمة الشرط «اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي» قد تحقق ظنيًا فحسب، وما هو إلا اتباع خرافة الظن وما يغني الظن عن الحق شيئًا، فَهُم غير مدركين بأنه لا معنى لمقدمة الشرط بدون تحقق جوابه الذي هو جواب الشرط، وإلا لأصبح شرطًا سلبيًا ولا يُأبه له في الحقيقة. فإذا كانت غاية الله من كل ما حدث للمسيح من أجل البشرية هو لمجرد أن يجلس بجانبه فحسب، إذا كان هذا ما يقصده الله، فليس هذا في الحقيقة بالأمر العظيم فالمعلوم بداهةً أن الله عظيم بذاته إلا أن ذلك يكون مدعاة للضحك والإلحاد، وإن استمرار التفوّه بهذا الأمر (الإجلاس عن يمين الله) يعطي للمعارضين فرصة للسخرية لأنه لو فُقدت الغاية المتوخاة فما الفائدة من مجرد الجلوس؟!

وبهذا يفقد الادعاء بالصعود المادي المُمثل في القول (جلس عن يمين الله) كل دعائمه الكتابية العقلية والنقلية، إذ لم يُعطي أي إيجابية منه في حد ذاته، كما لم يُحقق الإيجابية المتوقعة من حدوثه والمُمثلة في النص «حتى أضع اعداءك موطئًا لقدميك»

 

الهوامش والمراجع


[1] قاعدة عقلية أقرها وأرساها حضرة السيد المسيح، ودونت في الكتاب المقدس في حوار دار بين السيد المسيح ومعلم في إسرائيل يُسمى نيقوديموس [يو: 3/ 13]

[2] كان الحاضرين وقتها هم التلاميذ الأحد عشر حصرًا وهم: بطرس، أندراوس، يعقوب زبدي، يوحنا زبدي، فيلبُّس، برثولماوس، توما، متَّى، يعقوب حلفي، لبَّاوس المُلقب بتداوس وسمعان القانوي.

[3] وحكم اتصال النص بأصله حين نقله يعني أن كل راوٍ من رواته سمعه من شخص ثقة له، بحيث يصل الخبر في النهاية عن شخص ثقة فيصبح صحيح متصل. كما يجب أن لا يشوبه الشذوذ الخبري (أي معارضته لنص أقوى منه) كما يجب أن لا تشوبه العلة، أي سبب غامض وخفي قادح في صحته.

 

[4] شرط التواتر أن يروي الخبر عدد كثير ممن رأوه، ثم يروه عدد كثير ممن نقل لهم (على أن يكونوا من الموثق بصحة قولهم) وأن يكون مستند إخبارهم للخبر على الحس السمعي أو المرئي أو المادي كاللمس أو التذوق. فذلك يفيد العلم اليقيني بالشيء ليكون مقبولًا قبولًا لا حاجة بعده للشك فيه.

[5] حتى أنه لا يمكن مجرد اعتبار مجرد الرؤية هي "شهادة عيان" لأن المشاهدة هي رؤية العين، وهي حين يعتبرها أحدهم شهادة فلا بد أن تكون أمام مجلس القضاء "الحاكم" ومع ذلك فهي فلا تعد حجة قاطعة، لأن ما يثبت من خلالها يقبل النفي بشهادة أخرى.

[6] فلا يمكن الاطمئنان لخبر غير متصل أو متواتر وفوق ذلك يخالف نص كتابي واضح [يو: 3/ 13]

[7] المجاز: هو اللفظ المستعمل في غير ما وُضع له في اصطلاح التخاطب لعلاقة، مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الوضعي (والقرينة هي الأمر الذي يجعله المتكلم دليلًا على أنه أراد باللفظ غير ما وُضع له، فهي تصرف الذهن عن المعنى الوضعي إلى المعنى المجازي)

[8] [يو: 3/ 13] في حواره مع نيقوديموس

[9] يخلو الكتاب المقدس أو أي كتاب آخر أو حتى نص تراثي في أي دين من هذا، حتى أنه ليس دعوى أصلًا، فلا يدّعي بها أحد.

[10] [يو: 6/ 38]

[12] لقد قدَّم الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه السلام هذا الدليل في كتابه «توضيح مرام» وهو ضمن المجلد 3 من مجموعة الخزائن الروحانية ص60-61، الشركة الإسلامية المحدودة، طبعة عربية أولى 2012 ترجمة عبد المجيد عامر

[13] [مت: 11/ 14-15]

[14] أي إيليا وخادمه أليشع

[15] [مل2: 2/ 11]

[16] [ملا: 4/ 5-6]

[17] إنه بالتأمل في الكتاب المقدس «العهد الجديد» الإنجيل، نجد أن التصور المنطقي لمجيء المسيح عيسى ابن مريم في الزمن الأخير يكون في شخص مثيل له، وليس هو "المسيح الناصري" بذاته؛ نعم، فإذا كان الله قد تجسد (أي تجلى) في شخص يسوع المسيح، الذي قد مات في الجسد ولكنه حي بالروح، كما صرّح بذلك القديس بطرس في رسالته الأولى حيث قال: «فإن المسيح أيضًا تألم مرة واحدة من أجل الخطايا، البار من أجل الأثمةِ، لكي يقربنا إلى الله، مُماتًا في الجسد ولكن مُحيًى في الروح» [بط1: 3/ 18-19] فهذا يعني أن الله عز وجل حين يأتي في الزمن الأخير ليدين العالم سوف يختار (يصطفي) جسدًا آخر غير جسد السيد يسوع المسيح الذي قد مات سلفًا؛ لأنه بحسب بولس في رسالته إلى العبرانيين كان على الناس أن يموتوا مرة واحدة فحسب! حيث قال: «وكما وضع للناس أن يموتوا مرة ثم بعد ذلك الدينونة (يعني القيامة)، هكذا المسيح أيضًا، بعدما قُدِّم لكي يحمل خطايا كثيرين، سيظهر ثانية (يعني في شخص آخر) بلا خطية للخلاص للذين ينتظرونه» [عب: 9/ 27-28]

[18] (مت 11/ 15)

[19] الصفحة التي نوهنا عنها في مقدمة موضوعنا هذا، والتي قدمت السؤال الذي بنينا عليه هذا الموضوع.

[20] قدمنا صفة الشهادة وحجيتها في الهامش رقم 5 من هذا الموضوع

[21] [متى: 10/ 2]

[22] ويقال فيهما روايات مختلفة، وقيل أنهما من السبين الذين عينهم السيد المسيح وأرسلهم للتبشير في مهمات وأماكن محددة. لكن الثابت أنهما من الأمم الذين نهى السيد المسيح عن الذهاب إليهم، بل الاهتمام بالأحرى بأقوام بني إسرائيل خاصة.. فالأصح أنهما من تلاميذ بولس، وكتبا مؤلفات عن حياة المسيح بناء على روايات متأخرة.

[23] جدول تاريخي في مقدمة الكتاب المقدس - لبنان ط3 دار المشرق، س1994، الرهبانية اليسوعية "جيزويت"، الأب صبحي حموي اليسوعي، الأب يوسف قوشاقجي، بالتعاون مع الأستاذ بطرس البستاني.

[24] المرجع السابق

[25] القديسين متى ويوحنا، وهما من التلاميذ الإثنى عشر الأوائل للسيد يسوع المسيح، ومن الذين حضروا معه كل الأيام. ولكل منهما بشارة عن حياة السيد المسيح بإلهام من الروح القدس؛ ولم يُسجلا عن الصعود شيءٌ يُذكر!

[26] بل على العكس من ذلك، فقد أكدت الدراسات النقدية الحديثة للإنجيل أن الأناجيل القانونية المعروفة الأخرى قد نقلت عن مرقس (مقدمات في طقوس الكنيسة، الملامح الوثائقية والليتورجية لكنيسة الإسكندرية في الثلاثة قرون الأولى للراهب القس أثناسيوس المقاري ط1، س2011، ص41)

[27] شهادة القرآن، الخزائن الروحانية، المجلد السادس، ص333 الطبعة العربية الأولى 2015 ترجمة عبد المجيد عامر

[28] [مر: 16/ 19]

[29] [يو: 1/ 18]

[30] [تي1: 6/ 16]

[31] [أع:2/ 34-35]

[32] حيث ورد في [مز110/ 1] و[مت22/ 44] و[مر12/ 36] و[لو20/ 42-43] و[عب1/ 13]

[33] (مت 26 : 50)

[34] (مت 26 : 57)

[35] (مت 26 : 60)

[36] (مت 26 : 67)

[37] (مت 26 : 68)

[38] (مت 27 : 26)

[39] (مت 27 : 28)

[40] (يو 19 : 33-34)

[41] (يو 19 : 41-42)

[42] (لو 24 : 41) (يو 20 : 14-15)

[43] (يو 20 : 1-31)

[44] (مت 28 : 7)

[45] مرسوم ميلان هو عبارة عن وثيقة سميت بهذا الاسم، والتي أنشأت بشكل دائم من أجل التسامح الديني للمسيحية داخل الإمبراطورية الرومانية؛ حيث أن هذا المرسوم كان نتيجة اتفاق سياسي أبرم في “ميدي ولانوم” (ميلان الحديثة) خلال اجتماع أقيم بين الأباطرة الرومان “قسطنطين” و “ليكينيوس” في فبراير عام 313 ميلادياً بعد الانتصار في معركة “جسر ميلفيان”، حيث أعلنا فيه التسامح الديني للمسيحيين وأصدر في شكل وثيقة سميت باسم “مرسوم ميلان”. وكان عبارة عن رسالة موجهة من “قسطنطين” وليكينيوس” إلى حاكم “نيكوميديا” في آسيا الصغرى، والتي تحتوي على توجيه وحسن معاملة المسيحيين والاعتراف بالمسيحية كديانة مصرح بها في الإمبراطورية الرومانية.

[46] لم يصبح “قسطنطين” نفسه مسيحياً إلا في أواخر حياته، فقد عُمِّد وهو على فراش الموت كما أنه لم يتخلى أبداً خاصة في الشرع عن المفهوم الخاص بعبادة الإمبراطور، وهذا يدل بدون شك على أن الاعتبارات السياسية ورغبته في القضاء على عامل من عوامل التوتر والقلق في الإمبراطورية هي المسؤولة أيضاً عن التخاذل في هذه الخطوة وليس الاعتبارات الدينية وحدها.