الأحد، 19 يوليو 2020

سمات العلمانية في الحديث النبوي (1-7)


"الحكم بالنسبي على كل ما هو نسبي في الحياة"
قلنا، ونقول عن معرفة وليس عن جهل، أن الإسلام علماني بطبعه، ولكن لأن كثير من الناس لايفقهون المعنى الحقيقي من وراء كلمة العلمانية ومنهم مشايخنا مشايخ آخر الزمان، فهم يتوجسون شكًا وريبة ما أن يسمعوا كلمتها تتردد‼ فبمجرد ذكرها يوقظ ذلك في ذهنهم أمر هدم الدين.. والترحاب بالانحراف! ورفضٍ تام لأي تعريفٍ نظيفٍ لها.. وذلك للأسف هو نتاج عقود طويلة من التجهيل الفكري والتضليل الحكومي الممنهج لاستمرار بقاء السلطويات.
تعريف العلمانية
والعلمانية هي إبعاد المؤسسات الدينية عن سيطرة الدولة، وأنها تُعنى برفع قيمة المواطن في الوطن بتغذية روح الولاء والانتماء، وترسيخ المواطنة، بحيث يكون الفرد ─كل فرد─ هو روح الشعب وصوت الأمة في آن. وأنها تقوم على أساسين متكاملين أولهما الرقابة، والضبط العقابي القائم على حراسة القيم للدولة. وثانيهما أدوات التوجيه الثقافي التي تصنع الشخصية الفردية وتشحن المجتمع بالقيم الدينية المجردة من خلال أساليب الترشيد التربوي عبر الأسرة والمدرسة والمجتمع.
وسماتها هي: إجراء أحكامًا نسبية على كل ما هو نسبي في الحياة، إبعاد المؤسسات الدينية عن سيطرة الدولة والعكس، التزام مبدأ الحياد بالعلاقة تجاه المكونات الاجتماعية المختلفة، وإشاعة مبدأ التكافؤ والمساواة بين تلك المكونات، وتحرير المجتمع من أسلوب الفكر الواحد، والابتعاد عن الاستخدام التعسفي للتعاليم الدينية أو الأيديولوجية، تأمين التعايش السلمي لمختلف الأيديولوجيات بالشكل الذي يحول دون التمييز على أي أساس، حرية الضمير والمعتقد.
وسأتكلم عن السمة الأولى فقط في هذه الحلقة، وهي أن تُجرىَ على الحياة أحكاماً نسبية ─ أي متغيرة─ فيما هو نسبي أيضًا، بمعنى أنه لايجوز أن تحكم على الحياة وهي متغيرة بشيء ثابت مطلق الثبوت، ولا نقصد بذلك الدين ─تلك ملاحظة هامة─ فالدين نفسه هو الذي يحث على تلك السمة "الحُكم بالنسبي على ما هو نسبي" وما هو الدين لدينا ─كمسلمين─؟! إنه دين الإسلام المتكون من قرآن وسنة..؟
فنسأل هنا: هل الدين مُتصلب؟! فيكون الجواب السريع من المُجيب: بالطبع لا، بل إنه أصيلٌ مرن صالح لكل زمان ومكان..!
وهنا نقول أن من السنة نجد ذلك الذي ذكرناه ─المعاملة بالنسبي فيما هو نسبي─ بل نجده بادٍ أمامنا بجلاء واضح فيها، حتى من فرط وضوحه قد يرتاب البعض ويسأل عن سبب ذلك، فلما كان الرسول ﷺ يُسأل سؤال واحد، من أشخاص عدة في أوقات مختلفة أو حتى لعله في وقت واحد، فإنه كان يجيب دومًا بإجابات مختلفة لكل سائل بناء على اختلاف طبيعة السائل، ذلك رغم أن السؤال واحد من كل شخص!! فكيف ذلك؟!
حول الفضائل
سئُل الرسول ﷺ لمرات عديدة «أي العمل أفضل يارسول الله؟» فكان جواب الرسول ﷺ مختلفًا في كل مرة سُئل فيها! فتجده يجيب مرة قائلاً: «الإيمان بالله..»(1) ومرة «الجهاد في سبيل الله»(2) ومرة يقول: «حجٌ مبرور»(3) بينما يجيب شخصًا آخر ويقول: «عتق رقبة»(4) ومع ثالث يقول: «بر الوالدين»(5) وأخرى مع آخر يقول: «تُعين ضعيفاً»(6) ومع آخرين قال: «حسن الخُلق»(7) ولآخر قال: «الصلاة على وقتها»(8) وجدير بالذكر أن هذه الأجوبة لم يسردها الرسول الكريم دفعة واحدة في جلسة واحدة، ولكن كما أشرنا أنها كانت أجوبة لسؤال واحد كل مرة في أوقات مختلفة ومنها نُدرك أن الرسول ﷺ أجاب بما عَلِم على السائل حاله الشخصي وظرفه والظروف المحيطة به، فأجابه بما يناسبه ويناسب الوضع ويدفعه للأمام، فمن علم عليه ─مثلًا─ حبه للجهاد وميله له، وافاه بما يناسب ميله.. شريطة أن لايكون عدوانًا، ومن علم عنه نشاطه الخيري أو اليُسر في ماله وافاه بما يناسب حاله فحثه على العتق والسير في سبيل العتق، ومن عرف عنه غلظة في معاملة الوالدين قدم له برهُما وجعل عليه أولوية في ذلك، ومن عرف عليه مقدرةً عامة حثه على عون الضعيف.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد كذلك، بل أعطى ﷺ سائلًا واحد أكثر من خيار في أحسن العمل، فمرة أجاب سائله مُصرحًا عن أفضل العمل مُقدمًا ثلاثة أجوبة، وقال السائل ولو استزدت لزادني!(9) بل لم يقف الأمر عند كل هذا أيضًا، بل يزيد ويستمر! إذ سُئل ﷺ مرة نفس السؤال عن أفضل العمل فأجاب السائل قائلًا: «عليك بالحال المُرتحل»(10)...
فالجدير بالذكر أننا لو أوردنا كل الأجوبة المختلفة حول هذا السؤال فقط "أي العمل أفضل" ما وسعنا المقال، ذلك لدوام تغير الأحوال، وعدم ثبوت الحال وبالتالي تتغير الأجوبة بحسب حال سائل السؤال؛ وكذلك ورد في السنة ودونها الحديث عن رسول الله ﷺ، غير أننا يمكن أن نورد بحسب ما ورد أقل عمل ذكره رسول الله ﷺ هو من أفضل الاعمال بحسب السائل، إذ سُئل عن أهون الأعمال الفُضلى فقال ﷺ: «السماحة والصبر»(11) ثم سُئل ﷺ عن أهون من ذلك أيضًا فاجاب ﷺ: «لا تتهم الله في شيء قضى لك به»(12)
حول الكبائر
ثم لم يقف الأمر كذلك عند كل هذا بل تخطاه حتى إلى مسائل معرفة الكبائر. فكما كان تصرفه بالجواب عن أفضل الأعمال إذ قد عامل ما هو نسبي (الأشخاص) بما هو نسبي (الأحوال فالأجوبة المختلفة). فكذلك كان تصرفه ﷺ حين سئُل عن "ما أكبر الكبائر؟" فقال الرسول العظيم ﷺ في كل مرة جوابًا مختلفًا بحسب حال السائل أيضًا، وبحسب الموقف ومعرفته هو به، فكان يجيب مرة ويقول: «الشرك بالله»(13) ذلك ربما لعلمه بحال الشخص ميله لزمن الوثنية، أو غير ذلك من أمور التبجيل والتعظيم المُسف للأشخاص أو الأشياء، وأجاب في مرة أخرى قائلًا: «أن تقتل ولدك»(14) لعلمه ميول السائل لعمل الجاهلية مثلًا أو غلظته في معاملة أبناءه.. وفي ثالثة قال: «أن تلعن والدك»(15) وبموقف آخر قال: «أن تزني بحليلة جارك»(16) وفي آخر قال: «شهادة الزور»(17) ولم تكن هذه الأجوبة أيضًا في معرض الرد على سؤال شخص واحد، أو ميقات واحد، أو موقف واحد، وإنما هي في معرض السُنة النبوية الممتدة بحياته ﷺ، التي هي كل فعل أو قول أو تقرير منه ﷺ، وكذلك لم تكن هذه التي ذكرناها حصرًا بل كما قلنا في أفضل العمل، كذلك في اكبر الكبائر لو ذكرنا كافة ما ذُكر لما وسعنا المقال كذلك لدوام تغير الأحوال، وعدم ثبوت الحال وبالتالي تتغير الأجوبة بحسب حال سائل السؤال.
ومن ذلك نستخلص الفعل النبوي سواء اكان في أعلى الفضائل أو في الكبائر والرذائل، وكأنه أحاط بالعمل المجتمعي العام، ألا وهو المعاملة بالنسبي فيما هو نسبي فتلك من سمات العلمانية. لا نقل أن العلمانية مهيمنة على الدين، ولكن نقول أنها لم تجد بُداً إلا أن تكون في إطار الدين فكانت إصلاحية فيما فشلت فيه ديانات أخرى في أوروبا ومثيلاتها من مجتمعات تدنت فيما بعد لنفس الأسباب.
العلمانية والمسلمين
فيقول معترض: وما علاقة الإسلام بأوروبا، وكان فيها كنيسة طاغية وكهنوت مهيمن! وهكذا من مثل هذه المبررات الجهورية متتبعًا عورات وسلبيات الأمور كخنزير يتحرى القاذورات بدلًا من تتبع وتحري الإيجابيات كمسلم. فنقول حول الكهنوت أن دين الإسلام صيره شيوخ عصرنا ─والحال بيِّن─ دينًا كهنوتيًا يتحكم في أحوال العباد بالسلب ويوجّه حرياتهم ومصائرهم إلى السوء والانصراف إلى المادية لا إلى التقوى والرُقي والروحانية، فصار الدين على أيدي هؤلاء المشايخ المُضلين قيدًا بدلًا من أن يكون قنديلًا، والدليل نزوع أكثر الناس في هذا الزمان إلى محاولة الانفكاك منه وكسره إلحادًا، تمامًا كالحال في أوروبا حين رأوا أن الخير هو ترك الدين الكهنوتي.
من ذلك فقط نستطيع فهم قول حضرة رفاعة الطهطاوي عندما قال حين عاد من بعثة إلى فرنسا "الحق أحق أن يُتبع، ولعمر الله إنني، مدة إقامتي في هذه البلاد، في حسرة على تمتعها بذلك وخلو ممالك الإسلام منه" ثم أنشد قائلًا:
وإذا كنت بالمدارك غرًا ,’، ثم أبصرت مدركًا لا تمارِ
وإذا لم ترى الهلال فسلَّم ,’، لأناس رأوه بالإبصارِ(18)
فليت الشيخ المعترض كأستاذه الازهري المستنير، يتحرى الجمال بدلا من تحري الأباطيل، وليكن كقدوتنا الأولى ﷺ إن أراد هو اعتباره مقتدىً، فقد قال: «الْكَلِمَةُ الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا»(19)
لقد اتخذنا نحن الإسلام اسمًا ونفذوه فعلًا فحظوا بالسنة رغم عدم إيمانهم بالنبي ﷺ. فإنهم تحروا تطبيق الحق بغض النظر عن مصدره، نزعوا إلى تطبيق الفطرة وهكذا أصابوا الإسلام. دعك من التركيز على أمور السُكر والعربدة والعُري والشذوذ فتلك أمور شخصية وكل مجتمع عريض بغض النظر عن العلمانية فيه أو انعدامها منه توجد فيه موبقات مختلفة.. ومنها ما ذُكر، حتى أن في الدول (الإسلامية) المتعاقبة فيما بعد عصر الخلافة الراشدة الأولى والذي نسميه في تراثنا بالفيج الأعوج شهدت مجتمعاتنا الشرقية موبقات من هذه النوعيات، فلا تتهم العلمانية إذن واتهم فهمك، لأن فهمك يقودك إلى تحري السلب في كل شيء، والحري بك أن تنظر للنصف الملئان من الكوب، فلو غلَّبت الإيجابيات ودفعتها بصدق وإخلاص لصارت بقوتها مهيمنة ولما كان للسلب مكانًا ليكون، ولكن السؤال الآن أين الإيجابيات أصلًا والصدق والإخلاص في أمثال مشايخنا؟!
لن نفهم ذلك الكلام إلا في ظل تفتيح العقول وتحريرها من أغلالها وتحجرها، وأن نربط سنة النبي ﷺ ببعضها البعض، لا أن نأخذها عضين، أو نربط ما نريد ربطه ونتغاضى عن ما لا يلبي مصالحنا الشخصية وأهوائنا الضيقة. فندرك كيف تعامل ﷺ فقيل: "الدين المعاملة"(20) ، وقدم الدين أصيلًا مرنًا إبداعيًا، فلم يتجمد ولم يتحجر، فأنت إن تُعامل النسبي أي المتغير بما هو مطلق أي ثابت، فأنت بذلك تهز الثابت وتؤثر عليه وتهدمه لأن كل ما هو نسبي مهزوز ومتغير يؤثر على المُطلق إن طُبق عليه أو تحكم المُطلق فيه.

مصادر ومراجع
───────
(1). (صحيح ابن حبان 153)
(2). (صحيح ابن حبان 4596)
(3). (صحيح البخاري 26)
(4). (صحيح البخاري 2518)
(5).(صحيح البخاري 2782)
(6). (صحيح ابن حبان 4310)
(7). (المنذري في الترغيب والترهيب 3/ 354)
(8).(مسند أحمد 6/ 123)
(9).(صحيح البخاري 2782 عن عبدالله بن مسعود قال: سألت رسول الله ﷺ قلت: يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على ميقاتها، قلت ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين، قلت ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله. فسكتُّ عن رسول الله ﷺ ولو استزدته لزادني)
(10). (الفتوحات الربانية، ابن حجر العسقلاني 3/ 248)
(11).(ابن كثير، جامع المسانيد والسنن 5701 – مسند أحمد 5/ 318)
(12).(المصدر السابق)
(13).(صحيح البخاري 6871)
(14).(مسند أحمد 6/ 76)
(15).(صحيح البخاري 5973)
(16).(البيهقي، السنن الكبرى 8/ 18)
(17).(صحيح مسلم 88)
(18).(رفاعة بك رافع بدوي الطهطاوي، الإبريز في تلخيص باريز)
(19). (سنن الترمذي - كتاب العلم عن رسول الله. سنن ابن ماجه - كتاب الزهد)
(20).(الفوئد العلمية من الدروس البازية 2/ 161، ابن باز)

ليست هناك تعليقات: