نتفق جميعًا أن الشخص السيء ليس بوسعه بث مبادئ حسنة، فإن كل إناء ينضح بما
فيه. فإذا كان هذا الشخص السيء يقصد السوء بمن حوله، وبالأجيال التي بعده بهدف
إفسادهم وإحباط أهدافهم وغاياتهم.. فهو بذلك يُعد أبعد من أن يكون صوتًا مناديًا
بالأخلاق الحسنة والفضائل المُرتجاة.
فلنتصور إذًا أن شخصًا ادعى تلقي الوحي الإلهي كذبًا، فهل يُتصور بعد ذلك أن
يحث على الأخلاق الحميدة والفضائل الكاملة؟ كلا. فماذا إذًا؟!
إنه إذا اجتمعت الدعوة إلى الأخلاق الحميدة والفاضلة، والعمل بها، والحث
عليها، مع ادعاء تلقي الوحي والإلهام الإلهي في شخص ما، فهذا الادعاء لا بد أن
يكون ادعاءً صادقًا.
لندخل في الموضوع:
ففي كتاب «سيرة الأبدال» لحضرة مرزا غلام أحمد القادياني المسيح
الموعود والإمام المهدي عليه السلام، وهو من أصغر كتبه باللغة العربية الفصيحة والإعجازية،
يقول حضرته:↓
«وللأتقياء علامات يُعرفون بها، ولا ولي إلا التقي، يافتيان. منهم قوم
يرسلون لإصلاح الناس عند مفاسد الخناس من الرحمن» [سيرة الأبدال ص2]
ثم قال:
في هذه الفقرة المتميزة يمكن أن نميز قوسين متميزين منيرين لأصحاب الأخلاق الحميدة والرفيعة حيث ذكر حضرة المسيح الموعود مفتتحًا سمات المتقين ومختتمها في هذه الفقرة فقال: «فمن علاماتهم أنهم يبعثون عند ظلام يحيط بالزمان» مستطردًا ليقول: «ويرفئون ما اخرورق وينورون الزمان» وما بين هذين القوسين لا يبعد عن مفهومهما.
لقد أشار حضرة المسيح الموعود في كتابه العظيم فلسفة تعاليم الإسلام إلى أن الأخلاق الحقيقية لا تكون إلا عن إرادة واختيار وأن تكون صادرة
فيما يلائم الموقف لا عن اضطرار. فمن فَضَّلَ النور في وقت عمَّ الظلام وساد،
وأصبح من المعتاد عند العباد استساغة الخطأ وتمريره وغرابة الصواب وتقتيره، هو ذلك
المُتق الحق صاحب الخُلق الحميد، والذين يدعون إلى الإصلاح بالمتاح مما شُرّع من
السبل رغم إفصاح الناس بنبذهم في كل قول. فأولئك ينيرون من مشاعلهم الخفية ─أي بأخلاقهم
الحميدة─ زمان قد غفل عن كل نور.
فإنهم يختارون النور مختارين غير مضطرين وقت سيادة
الظلام، وينورون بهذا النور ظلمات الزمان الذي أظلم، أي أنهم إيجابيين في الاختيار
رغم الصعوبات، ورغم المعوقات فهم إيجابيين في الانتشار.
وهم
أسخياء كرماء إذا قل الكرم واستهزئ به وخَفُتَ ما يدعو إلى هذا الكرم في خِضم
التهكم من الكرماء المنفقين، يقولون "مجاذيب.. مجانين" فهؤلاء هم الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين
الغيظ والعافين عن الناس.
ويكون من
رواد هذا التهكم والسُخر في المقابل؛ عديمي الأخلاق والتقوى، فلا قلوبهم تفهم معنى
الرحم وكل الخلق الحميد عمومًا، ولا عيونهم تبصر ما يستدعي ذلك الخُلق، ولا
يستمعون لناصح فالح داعٍ لهذا الخُلق.. فهؤلاء هم الأنعام الذين ظهروا في مستوى
الخنازير في تحريهم لكل سوء، والبهائم في تحريهم لكل جهالة.
أما
المتقين أرباب الأخلاق الحميدة فيكونون في كثرة من مثل هؤلاء أتباع الأهواء والشهوانيين
وقلة من القليلين المتعبدين، ذلك حين يُستساغ عند الناس كل سيء ورديء لجهلهم وقلة
علمهم ولتواكلهم وكسلهم وقلة عملهم.
فكانت
نتائج كل ذلك فساد الزمان، فقد ظهر الفساد بما كسبت أيدي الناس أي بسبب أفعالهم
وإعراضهم عن كل حياء ورجاء.
ولا يقف
ذلك الفساد عند هذا الحد؛ بل يتعداه حتى إلى الكاملين أخلاقًا أيضًا إلا قليلًا من
المتقين المتواضعين حقًا، فلعل من كَمُل خُلقه فاغتر بتقواه وأُعجب، وتباهى بعلمه وتعصب، فظن أنه ناج، فنقص وعثر
وتردى وكفر! حتى أصبح كمن لم ينجع فيه الغذاء الروحاني. فركن إلى
الدنيا الدنية، فتضخم مظهره، وتضاءل جوهره.
في ذلك الحين
انقطع ماء السماء وما وقع بما ينفع الناس! فأجدبت الأرض وما أثمرت شيئًا فيه
بركة، وصار
الجميع من أولئك كمن لديهم جميع أسباب النجاة الدنيوية والأخروية لكنهم لا يجيدون
استخدامها، ولديهم جميع وسائل الرفعة كذلك لكنهم لا يعرفون استعمالها‼
ولما
تُفقد الأسباب، تُفقد الاهداف النبيلة والغايات الجليلة، ويعزى الأمر للسفهاء.
وخلاف كل
ذلك تجد الذين اختاروا النور بالرضا، يجيئون على بور ذلك الجدب حرثًا، فيكشطونه
كشط الطبيب لخراج فاسد أو لجلد ميِّت، ويعانون من قيحه وصديده حتى يزيلوه، وليتمكنوا من غرسِ غرسًا جديدًا وذلك هو الجهاد «زرعٌ فحصاد» ولمّا يكون الحصاد، وتزال
بجهادهم وعملهم أسوء الأحوال، عند ذلك يصرخ الشيطان، إذ يضربون جوفه ويحشّون بطنه حشًا حدّ
الإذلال، ويتفرغون من بعد لإصلاح من اهترئ، ويسدون ما قد اختُرق، ثم ينورون بحسن
قيادتهم الزمان.
▬
أرأيتم كيف أن المتقين
ذوي الأخلاق الحميدة الفاعلة، يدخلون الدنيا المظلمة ─وتلك أحوال ظلامها─ وينورونها؛ متسلحين
بسلاح النور اختيارًا، وبه يقاومون، ويجاهدون، ويصلحون، ما فسد من الزمان ويجددون
ويقودون.
هذه هي فلسفة حضرة
المسيح الموعود في القيادة التي تلقاها من الموحي والمُلّهِم الوحيد، فهل من شاكٍ
بعد ذلك بأنه يريد بث التثبيط، لا والله، فإنه من لم يفهم فإنه لم يفهم، وعليه أن
يدعو الله أن يكرمه ويهبه نعمة الاستيعاب والفهم، إنه هو مجيب الدعاء.
:.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق