من عام إلى عام ومن قرن إلى قرن
كان الناس في الأزمنة القديمة بل وحتى في عصرنا المعاصر هذا يتصورون
حدوث انقلاب كالقيامة أو هي ذاتها حين تشارف ألفية أو قرن من الزمان على الانتهاء واقتراب
آخر. في حين يكون هذا التصور متلاشٍ تمامًا في حال الانتقال من عام إلى عام. فترى
الناس يعودون ويتذكرون الحق في حال اقتراب انتهاء القرن بينما تذهل أنفسهم عن كل
ذكرى مع تتابع السنين والأشهر والأيام.. وكما كان يحدث هذا في الأزمنة القديمة،
حدث كذلك في خلال سنوات القرن التاسع عشر وحين انتهائه دخولًا إلى القرن العشرين.
ويعد موضوعنا هذا تجسيدًا واقعيًا لحقيقة هذا التصور الإنساني، فيكون
كتذكرة تصحيح تاريخية، وعظة تعريف للإنسانية، نتجنب بها أفعال وممارسات السابقين
كي لا نقع فيما وقعوا فيه بين مطرقة القرن وسندان السنين.
لقد لُقنّا في المدارس، ودُرّسنا في الجامعات، وقرأنا في الكتب
المختلفة عن أن لكل حدثٍ أسبابه. ومن الأسباب نقرأ المُعلنة منها ونتداولها، فهي
تلك التي يتناقلها القاصي والداني. ولكن لا يخفى رغم إعلان تلك الأسباب أن هناك
أسبابًا أخرى خفية، تكون لكل طرف من أطراف الحدث، وهي عادة ما تُبنى على أطماع
اقتصادية تدخل فيها نوايا وتوجهات ضيقة وطموح شخصي للقيادات السياسية. غير أنه لا
يمكن إعلانها على الملأ كي يسهل على المنتفعين قيادة ودفع العامة بخلافها.
إذن، فهناك أسباب معلنة الكل يرددها وهي دوافع للعامة، وأخرى خفية لكل
طرف تظل معروفة على النطاق الضيق جدًا، وهي رغبات للخاصة. ولكن هناك أيضًا أسبابٌ "حقيقية"،
قد لا يدركها أحد من كل الأطراف، إلا أنها تكون في الواقع هي المُحركةْ للأمر
برمته رغم أنوف الناس، ولكن بإرادتهم أيضًا.
«فادارءتم فيها»

«هذا عارضٌ ممطرنا»
ويُعقّب الكاتب الهولندي نفسه واضعًا يده على لمحة من حقيقة
الأسباب، ملقيًا جانبًا الخفية منها والمُعلنة بغرض الترويج لامسًا حقيقة هامة حول ذلك فيقول: "أما المؤرخ الذي يجيء بعد ذلك
بمائة عام فسوف لا يحفل بهذه المعاذير والتبريرات، وسوف يُدرك كُنه الأسباب
الخفية، ويعلم أن طموح الأشخاص وخبثهم وجشعهم لم يكن له إلا شأن ضئيل في
اشتعال نار الحرب آخر الأمر، وأن الخطأ الأصلي الذي تسبب عنه كل هذا البؤس
والشقاء، قد ارتُكب حينما بدأ عُلماؤنا عالمًا جديدًا قوامه الصُلب والحديد
والكيمياء والكهرباء، ونسوا أن العقل البشري أبطأ من السلحفاة التي ضرب بها المثل،
وأبلد من الكسلان، ذلك الحيوان المعروف المشهور، المتخلف ما بين مائة وثلثمائة عام
عن ركب ذلك النفر من الرواد الشجعان"[المرجع السابق] وذلك صحيح، ففي حين يرى الإنسان أنه أبدع بعقله فجاء بما لم يجيء به
الأوائلُ بفوائد ومنافع، ويصدح نشوانًا مُعجبًا بما أنجز.. إذ صور له عقله ولمن
حوله ممن انصاع له أنه هو ذلك القادر البارع المُتحكم في كل ما يحيط بهم، وليس
آخر، وفي أثناء ذلك يكون في واقع الأمر يُجهّز بشكل حثيث أمرًا ما للإجهاز به على
نفسه وبمن حوله ممن لم يعتصموا بالعاصم المناسب. ولكأن ذلك الكاتب بوصفه عقل
الإنسان بالبطيء الكسلان أقر ضمنيًا بوجود قوةٌ وذاتٌ عُليا لا غنى عنها لازمة له
لتُنشّطه ثم لتحميه حين ينشط.
نشاط العقل البشري خلال القرن التاسع
عشر




لقد كان الظن العام آنئذ حول تلك المُختراعات والمُكتشفات المُطورة إنما هي بُشريات ومحض منافع خالصة تستقبل العالم فلم
يَدُر في خلد الناس أن فيها أيضًا عذابٌ أليم، لكن مع ذلك البُعد الإنساني عن
حقيقة الأمر، وهو أن تلك النعم ليست نتاج قريحة العقل المجرد، إنما في وجود منعم
أعلى هو الله، أنعم أولًا بالعقل، ثم رزقه العلم والتفكير والاكتشاف، عسى أن يتضع
أمام واهبة. لكن ذلك لم يحدث، وصار العالم على شفا جرف، وما كان من الله الرب
الرحمن حينها إلا أن تجلت رحمته للإنقاذ مُمثلة في مبعوث منه تسجلت مواعيده وعلاماته
منذ القديم في جميع السجلات والنصوص الدينية ليقود سفينة النجاة في هذا الزمان.
فمن لحق به نجى ومن أبى فلا يلومن إلا نفسه التي ظلمها. لقد كان مرزا غلام أحمد القادياني [1835ـ1908]
وقتها هو الصادع الوحيد بصوت النذير على المستويين الإقليمي في بلده الهند والعالمي،
ولقد أبى معظم الخلق وصمّوا آذانهم عن نداءاته، واستمر دفق التطور التسليحي بين
القوى العمياء، فلقد رافق تلك المخترعات والمُكتشفات الرئيسية التي أوردنا، صناعات
جهنمية جديدة أخرى منبثقة عنها، فكان المدفع الرشاش 1883 والغواصة 1891، وانتهاءً
بالدبابة 1914..
العقل والوحي
بالطبع، لقد كانت كل تلك الاختراعات الحديثة والمكتشفات المُطَورة فيها
نِعَم إيجابية، لولا أن أصحابها أو مستخدموها سلكوا بها في مسالك الاستحواذ والطمع
والجشع والعدوان وقطع السُبل، سواء على المستوى الشخصي أو العام. حتى أنهم في خِضم
غليان الحرب ذاتها كان صنع الدبابة في الأساس كمحاولة لقضم أكبر قَطْعٍ من أراض
الخصوم.. بمأمن من وابل النار النازلة من المدفعيات الرشاشة والطائرات..
والحق أنه ليس هناك من سبيل لدى الإنسان لتجنب سلوكه المُدمر لذاته ولمُحيطه
إذا اكتفى بالعقل فحسب فيما رُزق من ذهنٍ مُفكر وفاعل أوتي به تحصيل تلك المنجزات؛
فكما قال الكاتب الهولندي سالف الذكر: "أن العقل
البشري أبطأ من السلحفاة"، وكأنه يشير دون التصريح أن هذا العقل الضعيف الذي
وُهِبَ تلك الغزارة في الفكر والعلم والاختراع والكشف عمّا كان مخفيًا طوال قرون ممتدة
سابقة، إنما أوتي إليه هذا الفضل إيتاءًا من ذاتٍ عليا. وهو إن لم يصرح، إلا أن
هذي الذات وبصراحة هو الله. وبدون ذلك الإيتاء منه عز وجل فهو في الواقع لا يعدو
ليكون كعقل غيره من مخلوقات المرتبة الدُنيا في المملكة الحيوانية.. أَمْا وقد
أوتي العقل هذه النعم من قِبل الله فلا بد وأن يعترف صاحب هذا العقل بفضل هذه الذات
العليا التي وهبته تلك النعم، فإن لم يفعل فليعلم صاحب هذا العقل أن ما أنجزه
واخترعه إنما هو ريح فيها عذابٌ أليم؛ لا لشيء إلا لأنه فقد معرفة الاتجاهات وأمسك
ببوصلتة يتأملها!
الطبيعة في مواجهة إلحاد العقل
البلاغ والتنبيهات المتكررة
لكن لم يأل داعي الله ومسيحه الموعود حضرة مرزا غلام أحمد القادياني ─الذي أتى وفقًا للتصور البشري المحض في أحداث الانتقال بين قرنين ووفقًا لوعود
الله─ لم يأل جهدًا في استمرار التنبيه للغافلين والمعاندين بكل وقت وظرف
ومناسبة، فكما أشاع تنبيهاته السابقة في البراهين لمنكري قيومية الله حتى قبل
إعلانه كونه المسيح الموعود، صرّح كذلك في خطابٍ جليل في مؤتمر حافل بزعماء الأديان
المختلفة بعد إعلانه أنه المسيح الموعود، لعلهم يعظون.. فنبّه بضرورة البحث عن الذات
العليا الواهبة لكل شيء ولزوم الالتصاق بها. فإن ذلك من طبع الإنسان، وإذا نبذ الخلق
ذلك الطبع الجبلّي فهم في وضع فاسد واتجاه خاطئ ويكاد أن يودوا بذواتهم ومحيطهم[فلسفة
تعاليم الإسلام ص78 ط.ح2011].
كما قام حضرته بإسداء غزير النصح لكافة رؤساء القوى والأمم لإرساء السلم والسلامة مُمثلة في تعليم الإسلام، بأن راسل بالبريد المُسجل زعماء جميع الأمم ومرشديهم والأمراء وولاة البلاد برسائل قد فاقت عن 12000 رسالة نصح وتنبيه[مجلد 3 الخزائن الروحانية، إزالة الأوهام، حاشية 48 ص160] لكننا لا نعلم ما كان رد فعلهم، فلا نعلم إلا قول الله: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}[سورة الأحقاف: 32]
كما قام حضرته بإسداء غزير النصح لكافة رؤساء القوى والأمم لإرساء السلم والسلامة مُمثلة في تعليم الإسلام، بأن راسل بالبريد المُسجل زعماء جميع الأمم ومرشديهم والأمراء وولاة البلاد برسائل قد فاقت عن 12000 رسالة نصح وتنبيه[مجلد 3 الخزائن الروحانية، إزالة الأوهام، حاشية 48 ص160] لكننا لا نعلم ما كان رد فعلهم، فلا نعلم إلا قول الله: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}[سورة الأحقاف: 32]
«وإذا وقع القول عليهم»

■:.
* أي الحرب العالمية الأولى [1914-1918]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق