➹
في ذكرى استشهاد القديس توما تعالوا نلقي نظرة فاحصة على أهم مواقفه.
― توما التوأم، من هو؟
هو أحد التلاميذ الاثنى عشر بحسب ما ورد في مت ١٠/ ٢-٤
ويقال أنه لُقّب بالتوأم لشبهه الشديد بالسيد المسيح، وهذا هو السبب الذي جعل عموم المسلمين يجنحون إلى عقيدة الشبيه المصلوب الباطلة. فقد جعلوا توما في بعض الروايات هو الشبيه الذي صُلب بديلا عن المسيح فداء له، وفي روايات أخرى جعلوا يهوذا هو الشبيه عقابًا له.. وكلا الروايتين خطأ، فالمسيح نفسه اعتُقل وعُلق على الخشبة، ولكنه نزل عنها حيًا، فلم تتم عملية الصلب.
ولكن هناك سبب آخر أكثر منطقية لحصول توما على لقب التوأم وهو أنه كان توأمًا بالفعل مع أخ له هو القديس آداي الذي بشر برسالة المسيح في ولاية الرُها في جنوب شرق آسيا الصغرى، وكان أحد الاثنين وسبعين رسولًا.
أولًا ― موقف الشك
بعد قيامة السيد المسيح وزيارته لعدد من التلاميذ بشكل مفرق، لم يكن التلميذ توما حاضرًا في هذه الزيارة الأولى، وعلى الرغم من شهادة جميع التلاميذ بأن السيد المسيح زارهم وهو بخير بعد حادث الصليب، لم يصدقم توما أبدًا رغم شهادة الكل، رجالًا ونساءً.. لم يصدق حتى بمجيئ المسيح بنفسه إليه، فلم يصدق إلا بعد أن لمسه بنفسه، ووضع إصبعه في مكان المسامير على يده ومكان الحربة في جنبه.. ساعتها فقط صدَّق وآمن بقدرة الله على تنجية عبده المسيح، وأبدى اندهاشه وتعجبه من قدرة الله وحسن صنيعه هذا وهتف ممتنًا حيال ذلك الموقف: «رَبِّي وَإِلَهِي = O my God»
― تحليل موقف الشك
وبناء على موقف توما هذا يمكننا أن نستخلص مجموعة مبادئ أساسية في العقيدة التي كان عليها تلاميذ المسيح.
❶
مبدأ: سلامة عقيدة التلاميذ
لم يكن تلاميذ المسيح يعدون المسيح إلهًا يُعبد وإلا لكانوا نهروا توما بسبب شكه في ظهور معبودهم. ولكنهم واجهوا شكه هذا كأمر عادي كون المسيح لم يتعدى قدره كبشر، ويسري عليه الموت والفناء كأمر طبيعي، بينما يكون التعامل مع رجوع أحد من الموت (وهو الأمر الذي شاع عن المسيح بعد حادث الصليب) يعد ضربًا من الخيال والمستحيل، ومعذور من لا يصدقه.
لذا فلم ينهر التلاميذ موقف توما، لعلمهم أن المسيح بشر، وأن توما كذلك بشر، وأن الموتى لا يعودون، وبسبب ظن توما أن المسيح قُتل فكان اضطرابه وشكه هذا مقبول عند التلاميذ ولم يؤنبه أيٌ منهم ولم يعتبرونه مهرطق.
❷
مبدأ: جدوى شهادة شهود العيان
لم تكفي الشهادة الجماعية للتلاميذ، وهم من هم، لم تكفي لإقناع تلميذا منهم أيضًا، وهو من هو.. يعني لم تكفي شهادة شهود العيان الموثوقين في إثبات ما اعتبره المسيحيون فيما بعد عقيدة حول ألوهية المسيح من خلال فكرة حياته بعد الموت، ولكن مع أن هذا المنهج أثبت فشله مع التلاميذ أنفسهم بالتجربة العملية، يجنح المسيحيون لاعتمادها لترويج عقائدهم المخترعة وفرضها على البشر والتي لم يكن التلاميذ يعتقدونها أصلًا.
فما هو الداعي كي يؤمن شخص مثلي بتجسد الإله وهو لم يعاين تجسد ولا أثر مناسب لهذا التجسد. بل لعل أقل نبي في الدرجة صنع أكثر مما صنع وقدَّم يسوع مزعوم الألوهية!
❸
مبدأ: طبيعة قول توما
كلمة «رَبِّي وَإِلَهِي» هل هي تعجب واندهاش أم إقرار بألوهية؟!
في كثير من نسخ الكتاب المقدس تُرفق علامة التعجب (!) بعد هذه الكلمة. وفي نسخ أخرى تترجم هذه الآية "أَجَابَ تُومَا: «رَبِّي وَإِلَهِي»" كالتالي «فاندهش توما وهتف.. «، وهي كما يقول أحدنا حين يجد ضالته بعد جهد وحزن فيهتف ويقول: (الحمد لله) أو (الله أكبر) ... إلخ. وهي تماما مثل الصيغة الإنجليزية O my God التي تعني حين تُقال امتنان عن فضل وتعبير عن شكر... ولا تُفهم أبدًا حين نقولها أنها تعبر عن ألوهية الشيء الضائع أو الشخص المفقود المقابل لنا حين نجده.
لذا وبناء على المبدأين السابقين، مع مبدأ طبيعة قول توما هذا في ذلك الموقف الاندهاشي والتعجبي فذلك يعد إثباتًا جوهريًا على فرحة توما أن معلمهم –الذي أنعم الله به عليهم لو ١/ ٦٨– لا زال وسطهم، فيعد هذا القول امتنان من توما لله على عظيم فضله بتنجية المسيح من قبضة الموت، وليس أبدًا إقرارًا بكون المسيح إلهًا.
ثانيًا ― موقف الشك على الشك
وبعد خمسين يومًا من رحيل المسيح عن منطقة اليهودية والجليل، بعد النجاة من الصلب، قاصدًا منطقة الشرق حيث بقية أسباط بيت إسرائيل الضالة التي كانت أيضًا على رجاء مجيئ المسيح، تبعه القديس توما إلى هناك حيث بشر بلاد العراق وفارس وأصبح معروفًا بشفيع الهند..
وبعد فترة من مكوث المسيح وأمه مع من رافقهم في رحلتهم المشرقية بعد حادثة الصليب، أتى موعد أجل وفاة السيدة مريم هناك، فالتحقت بالرفيق الاعلى. وكانت مهمة القديس توما هو إبلاغ جماعة المؤمنين في بلاد فلسطين بخبر وفاة القديسة مريم وأرفق معه المسيح حزام لها كتذكار لهم.
لكن يبدو أن التلاميذ لم ينسو شك توما في شهادتهم الجماعية منذ فترة، فشكوا هم أيضًا هذه المرة في تصريحه بموت القديسة مريم، واستمر شكهم من شهادته لأسبوعين كاملين، رغم إرائتهم الزنار الخاص بها (الحزام)، وربما حتى جائهم مرسول آخر يؤكد لهم الخبر، وفي الغالب فإن أخوه التؤام القديس آداي مبعوث الرها هو الذي أكد على تصريحه بوفاة القديسة مريم أم المسيح فقد سبق ومر توما به في طريقه، أو لعل آداي جاءه خبر آخر مستقل من البلاد الشرقية فأخبر بناء عليه.
وكالعادة فإن عنصر الخرافة قد فرض نفسه مع مرور الزمن، فالقول أن العذراء مريم قد ارتفعت روحها إلى بارئها وصل إلينا بصيغة صعود الجسد في السماء!
― تحليل هذا الموقف
وبناء على موقف التلاميذ هذا من شهادة القديس توما وتبعاته يمكننا كذلك استخلاص عدة مبادئ مفيدة في العقيدة المسيحية الأولية.
❶
مبدأ: عقيدة الشك
ويتجلى هذا المبدأ عمومًا في طبيعة إيمان الصفوة الأولى من الذين آمنوا بالمسيح، سواء في الأمور العقائدية الأساسية أو في الأمور الفرعية.
وكان دواء هذا الشك دائما ما يكون أمر مادي، أو تأكيدي من طرف آخر. فليس حقيقيًا أن مثل هؤلاء يؤمنون بناء على رؤى أو أحلام يمكن اعتبارها أضغاثًا أكثر من اعتبارها حقائق. فقد كان أمامهم شوطًا كبيرًا في الروحانية لم يكونوا قد بلغوه بعد.
❷
مبدأ: خرافة الصعود
وهذا المبدأ شائع جدًا في عقيدة المسيحيين، فالمسيح عندهم صعد جسديًا لعدم وجود جسد له في قبره بفلسطين حيث شوهد ميتًا على الصليب رغم نفي الكتاب لفكرة الصعود هذه من جذورها وقد بيناها في خمسة أدلة (اضغط هنا)
وكذلك مريم أمه صعدت، لعدم وجود لديهم جسد لها في قبر، فليس من حل لهم حيال ذلك إلا القول بأنها صعدت جسديًا.. وهكذا في كل أزمة اختفاء شخص، كل ما تتزنق قول صعد!!
وقد بينا تحليل فكرة صعود العذراء مريم في موضوع مستقل (اضغط هنا)
وكل هذه الأزمات ناتجة عن غض الطرف عن بقية القصة الواقعية التي حدثت بعد الصليب، من نجاة المسيح من الموت وهجرته إلى بقية اليهود شرقًا... وتبديل كل ذلك بخرافات ترقيعية ليس لها أساس لا في الكتاب ولا في المنطق.
❸
مبدأ: حصر التبشير في اليهود
لقد لاحظنا أثناء هذه الجولة أن جميع الأهداف الجغرافية التي قصدها المسيح أو كلف أحد بارتيادها إنما كانت تجمعات يهودية. فهو نفسه قصد بلاد الشرق حيث بقية أسباط بيت إسرائيل الضالة، والمنتظرة رجاء مجيئ المخلص، وكانت قد استقرت في بلاد السبي بإرادتها.
والقديس توما الذي رافقه فقد اختص بالتبشير برسالة المسيح في الهند حيث الجاليات اليهودية الباقية والمشتتة منذ كسر قيد السبي وأصبح معروفا بشفيع الهند.
وكذلك مدينة الرها تلك التي اختص بها القديس آداي توأم توما كانت كذلك تجمع يهودي حيث تواجدت المجتمعات اليهودية في الأناضول منذ القرن الخامس قبل الميلاد على الأقل ووفقًا للتراث العبري فقد رست سفينة نوح أعلى جبل أرارات، وهو جبل ضمن سلسلة جبال طوروس شرقي الأناضول، قرب الحدود التركية المتاخمة اليوم لأرمينيا وإيران. وتكلم المؤرخ يوسيفوس، وهو مؤرخ يهودي من القرن الأول، عن الأصول اليهودية للكثير من المدن في الأناضول.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق