♦ جيد أن نستنكر أمر التكفير وننبذه، والأجود أن نرجعه إلى أصله في التاريخ.
وفي هذا السياق يجب أن نعلم أن التاريخ الإسلامي كله قد خلى من الجنوح التكفيري، لا
سيما في فترة صدر الإسلام والخلافة الراشدة، انقيادًا للنص القرآني الكريم {وَقُلِ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف] وانصياعًا لقول رسول الله ﷺ التحذيري: «من قال لأخيه يا كافر فقد
باء بها أحدهما» [أحمد- مالك]، حتى أن ظهور هذا الفِكر منذ أن أراد يظهر كان متاخرًا عن فترة صدر الإسلام،
ولم يكن إلا بشكل التفافي على ذلك الوصم التكفيري العلني السافر في وجه المخالف، خشية
التورط في أمر التكفير المنهي عنه تمامًا في الشرع، لذا فقد ظهرت بدلًا من ذلك كلمات
أخرى استُعملت عوضًا عن كلمة "كافر" الصريحة، وأبرز تلك الكلمات كلمة
"زندقة" وقد ظهرت هذه الكلمة (فارسية الأصل) حين ظهرت في الأوساط العربية،
مع النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، حوالي سنة 165هـ إبان حكم الدولة العباسية.
••• والجدير بالذكر أن الوصف "كافر" بشكل صريح لم يوجد ذكره في التاريخ
الإسلامي ككل حتى في أوج انحدار هذا النهج الأعوج في الأمة، فحتى صفة الزندقة لم تكن
أصيلة في التراث الإسلامي، إنما استوردت من مناهج تراث وحضارات أخرى كما بينا وسنبين..
♦♦ أما القول بأن أول تكفير في تاريخ الإسلام ذلك الذي كان حين واجه الخليفة الرشد
الأول أبا بكر الصديق رضي الله عنه المرتدين الذين أعلنوا ارتدادهم بعد وفاة رسول الله
ﷺ بامتناعهم عن أداء فريضة
الزكاة.. فهذا قول جاهل بوقائع التاريخ ولا ينظر إلا إلى سطحها بحمق أو بخبث.
♠ فأولًا ▬ لم تكن مواجهة المرتدين
بعد وفاة رسول الله ﷺ إلا لمحاربتهم للحكومة الإسلامية القائمة في المدينة المنورة، وليس لمجرد ردتهم
كما يظن الناس. فليس مجرد الارتداد عن الدين في الإسلام داعيًا لمواجهة المرتد بالحرب،
إلا إذا كان مرتدًا محاربًا، فتكون مواجهته كونه محاربًا لا لكونه مرتدًا، فمن شاء
فليؤمن ومن شاء فليكفر كما أعلن القرآن الحكيم بوضوح سلفًا. فليس في الإسلام تكفير
أصلًا، لا بضوابط ولا بغير ضوابط كما يدّعي غلاة القوم. إلا من سمى نفسه بما أحب فهو
كما أحب أن يكون، ولا يستدعي كونه حتى كافرًا أن يُقتل لذلك.
♠ ثانيًا ▬ كانت أعمال العدوان للمرتدين
الأوائل هي من قبيل تلك الأعمال التي تستوجب قتالًا بالفعل، ولا يمكن أن يتصور عاقل
مرورها هكذا بعفو، إذ قد هاجم المرتدون في أماكنهم وقبائلهم مجموعات المسلمين الذين
كانوا في وسطهم وقتلوهم شر قتل، وكذلك فعل من انتهج نهجهم. [الطبري]
♠ ثالثًا ▬ كان هؤلاء المرتدين هم
الذين بدأوا بالقتال، حتى أنهم ساروا بالجيوش إلى المدينة المنورة وحاصروها في وقت
لم يكن فيها جيش معتبر للدفاع عنها. فنحن هنا أمام واقعة إرادة انقلاب عسكري عدواني
مسلح على الحكومة القائمة. لذا فالأنسب أن نقول أن هذا القتال كان قتالًا على المتمردين
كما هو الحال وقتئذ، لا قتالًا للمرتدين فحسب، فإن كلمة متمرد تستدعي في حد ذاتها المواجهة
بالقتال، أما كلمة مرتد في حد ذاتها فلا تستدعي مواجهة بقتال إلا إذا صاحبها المحاربة
والعدوان. وهو ما كان عليه المرتدين في أواخر عهد النبوة وبداية عهد الخلافة الراشدة.
يقول ابن جرير الطبري في تاريخه: "إن أول من صادم المسلمين (أي من القبائل)
عبس وذبيان، عاجلوه (أي الصديق أبا بكر) فقاتلهم قبل رجوع أسامة (الذي كان في مواجهة
الرومان)" ثم تبعتهم القبائل.
♦♦ ولقد كان الحصار الذي ضربه المرتدين على المدينة شديدًا حتى أن أهل المدينة
أوو إلى المسجد ليحتموا به! وجعل أبا بكر على منافذ المدينة علي بن أبي طالب والزبير
بن العوام وطلحة بن الزبير وعبدالله بن مسعود لرد العدوان من هؤلاء المتمردين المُغيرين
على المدينة بقدر الإمكان. [تاريخ ابن خلدون]
← أفلا يحتاج هذا الوضع
العصيب للمواجهة بقتال يا عقلاء، أم ماذا ترون؟!
ولكن وعلى الرغم من ذلك، لم يُكفِّر المسلمين وقتها هؤلاء المتمردين (المرتدين)،
فلا يسوغ لأحد أن يقول أنهم كفروا ولذلك قوتلوا. بل كانوا في نظر المسلمين الباقين
على العهد، مجرد مسلمين انحرفوا عن بعض التعاليم، وما كان قتالهم إلا لتمردهم وعدوانهم.
فهم قوم كانوا يشهدون ─ولو بلسانهم فحسب─ أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، ومن قالها لا يكفر، وهذا كان اعتراض
عمر بن الخطاب رضي الله عنه في البداية على قتالهم. إلا أنه لم يتخلف عن مواجهتهم بقوة
مع أبا بكر الصديق رضي الله عنه حين برزت خططهم وانقضّوا على المسلمين بالقتل وانطلقوا
إلى المدينة بالعدوان.
♦♦ أما الطامة الكبرى على مسلمي العصر اليوم أنهم يعتبرون أن الخلافة الراشدة
الأولى قد وقعت في شرك التكفير هذا! رغم ما نصه القرآن المجيد على حرية العقيدة وتنبيه
النبي ﷺ مرارًا بسنته المطهرة
وفي أحاديثه الشريفة على خطورة ذلك التكفير.. فكأن مسلموا عصرنا هذا بهذا الجنوح الفكري
والعقدي يعتبرون أن النبوة الخاتمة سقطت في أول اختبار تطبيقي لها بعد وفاة النبي الأكرم
ﷺ إذ قد عصاه صحابته حاشاهم
أجمعين، وقرروا من عند أنفسهم تعاليم غير التعاليم.. كلا، فلقد بقوا على العهد، حتى
توفاهم الله مؤمنين، صدقوا ما عاهدوا الله عليه، خلافة على منهاج النبوة كما أخبر الحبيب
المُصطفى ﷺ، والتي عادت بمنهجها القويم الرشيد اليوم أيضًا، كما أنبأ ﷺ عن أمور آخر الزمان، فذكر
حديثًا اختصر فيه تاريخ الإسلام، فعن حذيفة بن اليمان أن رسول الله ﷺ قال: «"تكون النبوة
فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة،
فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون مُلكًا عاضًا، فيكون
ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون مُلكًا جبرية، فتكون ما
شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة".
ثم سكت» [أحمد]
♠ ما يعني أن النبوة تلك
التي هي معلومة الصلاح بالضرورة، سيتبعها خلافة على منهجها الصالح، ثم ترتفع بعد فترة، فيليها أنظمة حكم مختلفة ليست في أغلبها على المنهاج الصحيح، وتتبدل في أشكال وألوان
ما أنزل الله بها من سلطان، ثم يذهب كل ذلك بأمر الله، ويأتي أمر الله ببعث مسيح آخر
الزمان، كما أخبر نبينا محمد ﷺ عنه قائلًا يوشك أن يأتي فيكم مسيحًا مهديًا، ثم تتبعه خلافة راشدة ثانية على
منهاج النبوة كتلك الراشدة الأولى التي كانت. رضوان الله على أصحابها أجمعين■
:.:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق