يقول المثل الشهير "عدو عدوي صديقي" ويُستعمل هذا المثل في المفاضلة بين عدوين حتميين، أحدهما أنكى وأظلم وأشد عليَ من الآخر، بينما يكون هذا الآخر أشد على الأول، أو أنه يمنع عني شر العدو الأول، ويبقى عدوًا لي، لكنه لا يؤذيني مباشرة.
فيصبح هذا العدو الثاني صديقًا لي (فهو لا يؤذيني مباشرة) على العدو الأول (الذي يريد تقتيلي مجاهرةً).
وهكذا
كان المسلمون في الهند، بين عدوين، سيخًا وثنيين، وإنجليز مسيحيين، وكان السيخ المتطرفين
يعتبرون المسلمون أنجاس، يجب محوهم بالإبادة، وأن صوت الأذان يلوث جو الهواء،
فيقطعون لسان المؤذن... فذاق المسلمين في الهند في عهد أولئك السيخ الخالصة[1]
مرارة الحياة، وعدم الاطمئنان[2]
في الدين، حتى جاء الإنجليز البريطانيين في صورة شركة الهند الشرقية البريطانية[3]،
وسيطروا على الهند، ففصلوا بين الأضداد المتنازعين، وجعلوا كل طرفٍ حر فيما يذهب
في الدين، وإن كان فعل البريطانيين هذا لا يصب في مصلحة أي من الأطراف أساسًا، بل ليتمكنوا
من نهب البلاد دون حصول شوشرة من العباد أهل البلاد، غير أن هذا الأمر وإن كان
مضرًا بالهند، إلا أن العدل منهم بين الطوائف أعطى المسلمين فرصة الظهور بعد أن كانوا
في محل الخائف المغمور. ويعد إقليم البنجاب في شمال الهند هو مكان تمركز الطائفتين
المسلمين والسيخ، وتريد طائفة السيخ الاستقلال بهذا الإقليم وتأسيس دولة لهم باسم
"خالصتان" بينما يريد المسلمون البقاء في الإقليم باعتباره موطنًا لهم،
غير أن حجم المسلمين 11% من مجموع تعداد سكان الهند بالمقارنة مع نسبة 2% للسيخ جعل
ذلك يمثل تهديدًا للسيخ حول مصير حلمهم في إنشاء دولتهم المأمولة، ولهذا احتدمت
العداوة التي برزت في محاولات لطمس كل ما هو إسلامي في إقليم البنجاب الهندي.شعار طائفة السيخ
فهناك وقت شهدت فيه عصور حكم معلمين[4] من السيخ مذابح طائفية وتصفيات جسدية ومحاولات لطمس معالم المسلمين، لعب الدور الأبرز فيها المتطرفين من السيخ والمعروفين بالخالصة المعادين للمسلمين[5] وتعتبر أيام تقسيم الهند (بعد الاستقلال) وتأسيس دولة باكستان ذروة الصراع بين المسلمين والسيخ بعد المذابح الشهيرة التي وقعت بين الطرفين[6].
فإذا كان الحال كذلك، أفلا يكون أولى للمسلمين في الهند (بعد أن كانوا مُقطعي الأوصال) أن يفضّلوا المستعمر البريطاني في الهند، ويشكروا صنيعه على ما قدمه من عدل وأمن بحجز السيخ الخالصة عنهم؟!
من عملات شركة الهند الشرقية البريطانية |
أفلما يظهر منادٍ[7] في تلك الأجواء ينادي بشكر البريطانيين على ما قدموه من خدمات أمنية، وتوفير مساحات فكرية لم تكن موجودة، بتأمين مناخ من العدل والاستقرار، ويعلن تقديره صنيعهم هذا يُخون ذلك النداء والمنادي! فكيف تحكون؟!
♦ فطرة إنسانية
وإن الفطرة الإنسانية، التي جبلنا الله عز وجل عليها، لتذهب تلقائيًا إلى هذا المذهب، نعم، أرأيت إن ضربك أباك وحرمك وعذبك وآذاك.. ثم ظهر خصم لأبيك يذود عنك ويعطيك ويحميك من ضرب وتعذيب أبيك، ألست تأوي إليه؟؟ أتكون عاقًا وجاحدًا لوالدك إن فعلت ذلك؟؟ كلا. بل إن غريزة الحرية والبقاء تدفعك إلى ذلك، ولا تكون من الملومين حينذاك إلا إذا صرت على أبيك من المعتدين أو المحرضين.
♦ آية قرآنية
ثم أليس للمخونين في هذا الشأن معرفة بهذه الآية القرآنية الكريمة التي تقول: «الم• غُلِبَتِ الرُّومُ• فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ• فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ• بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ»[8] فعلامَ سيفرح المؤمنون حينئذ بحسب الفهم التقليدي لهذه الآية يا تُرى؟!، أليست فرحتهم بغلبة الروم المسيحيين على المجوس الفرس الوثنيين، أيمدح الله الخونة! بل ويسميهم مؤمنين؟ "كان النبي ﷺ وأصحابه يفرحون بانتصار الروم والنصارى على المجوس وكلاهما كاف، لأن أحد الصنفين أقرب إلى الإسلام، وأنزل الله في ذلك سورة الروم... وكذلك يوسف الصديق كان نائبًا لفرعون مصر وهو وقومه مشركون وفعل من العدل والخير ما قدر عليه، ودعاهم إلى الإيمان بحسب الإمكان[9]"[10]
فما لكم تخالفون الفطرة والقرآن الكريم لنصرة أهوائكم وأفقكم السطحي العقيم.. ما لكم!! كيف تحكمون؟؟!!
♦ الهدي المُحمدي
وهذا رسول الله ﷺ من قبل، يقدم نموذجًا، إذ أرسل المُضطهدين من المسلمين الأولين إلى نجاشي الحبشة المسيحي قائلًا لهم: «إنَّ بأرض الحبشةِ ملِكًا لا يُظلَمُ أحدٌ عنده، فالْحقوا ببلادِه حتى يجعل اللهُ لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتُم فيه»[11]
فما أشبه الحال بالحال، وقد قال نبينا ﷺ: «بدأ الإسلامُ غريبًا وسيَعودُ غريبًا فَطوبى للغُرباءِ»[12] وكأن عمل الأمس منه ﷺ مثبِتًا لفعل اليوم عمن تبعوه بإحسان ولم يخونوا… ولقد سمع عمرو بن العاص المستوردَ بن شدادَ يحدث عن النبي ﷺ بقوله: «تقوم الساعة والروم أكثر الناس». قال له عمرو: أبصر ما تقول؟ فقال المستورد: أقول ما سمعت من رسول الله ﷺ فقال عمرو: "لئن قلت ذلك؛ إن فيهم لخصالا أربعا: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة وأمنعهم من ظلم الملوك"[13] فأي الفريقين تخونون إن كنتم صادقين؟!
♦ هدي نبوي
وليس من المستغرب أن يكون هذا هو نهج جميع النبيين من قبله ﷺ، إذا حصل اضطهاد، فهذا عيسى ابن مريم «ذَهَبَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَتَشَاوَرُوا لِكَيْ يَصْطَادُوهُ بِكَلِمَةٍ. فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ تَلاَمِيذَهُمْ مَعَ الْهِيرُودُسِيِّينَ قَائِلِينَ: "يَا مُعَلِّمُ نَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَتُعَلِّمُ طَرِيقَ اللَّهِ بِالْحَقِّ وَلاَ تُبَالِي بِأَحَدٍ لأَنَّكَ لاَ تَنْظُرُ إِلَى وُجُوهِ النَّاسِ. فَقُلْ لَنَا مَاذَا تَظُنُّ؟ أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ؟" فَعَلِمَ يَسُوعُ خُبْثَهُمْ وَقَالَ: "لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي يَا مُرَاؤُونَ؟ أَرُونِي مُعَامَلَةَ الْجِزْيَةِ". فَقَدَّمُوا لَهُ دِينَاراً. فَقَالَ لَهُمْ: "لِمَنْ هَذِهِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟" قَالُوا لَهُ: "لِقَيْصَرَ". فَقَالَ لَهُمْ: "أَعْطُوا إِذاً مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلَّهِ لِلَّهِ"»[14] فهل كان عيسى المسيح بذلك القول عميلًا للرومان خائنا لقومه ومتواطئًا ضدهم؟! كلا وحاشاه عليه السلام، بل كان معارضيه هم المنافقون، وأرادوا الإيقاع به لدى الرومان، متواطئين هم ضده عندهم! فهم الخائنون.. فلما تنكرون يا عباد الله سُبل الله وأسبابه للنجاة؟! وما لكم لا تنصفون وعن سُبل الافتراء لا تتقون؟!
♦ وعن أهل البيت
ولمن تراوده فكرة وجوب تحمل كل اضطهاد وذلة وموت على ألا نكون آوين لمستعمر، فالموت والحياة في الأخير بيد الله.. نقدّم له قول الإمام علي [كرم الله وجهه] لما سأله أحدهم قائلًا: "أكان مسيرنا إلى الشام بقضاء من الله وقدر؟ فقال الإمام عليه السلام له: "ويحك‼ لعلك ظننت قضاء لازما وقدرًا حاتمًا ولو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب، وسقط الود والوعيد. إن الله الله سبحانه أمر عباده تخييرًا ونهاهم تحذيرًا، وكلَّف يسيرًا ولم يكلف عسيرا.."[15] يعني أن الإمام رضي الله عنه استنكر فكرة الخنوع للظلم والموت مع وجود فرصة للنجاة والحياة إذا كانت بالطبع نزيهة شريفة وليس فيها خُبث أو خيانة ومداهنة[16]
وفي موقف سابق شبيه لذلك عن الأسقف المسيحي أثناسيوس الإسكندري، عندما لوحق من أعدائه وطُلب ليُسجن فهرب وقال مبررًا هروبه: "يتجاسرون على نعتي بالجُبن لكوني لم أستسلم للقتل... إن هرب المُضطهَد هو اتهام المُضطهـِد"[17] يعني الذي يهرب من الاضطهاد والظلم لا يُتهم أو يُلام، إنما يُلام ويتهم من ظلمه واضطهده.
♦ ومن قول السلف الصالحين
ويقول في ذلك المضمار شيخ الإسلام أحمد بن تيمية: "يجب على كل ولي أمر أن يستعين بأهل الصدق والعدل، وإذا تعذر ذلك استعان بالأمثل فالأمثل وإن كان فيه كذب وظلم، فإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم، والواجب إنما هو فعل المقدور"[18] فلا شك أن إقامة العدل وأداء الحقوق لأهلها البلدان من أسباب البقاء ومن دواعي إقبال الناس على أولئك الحكام، وقال أيضًا: "أن الجزاء في الدنيا متفق عليه أهل الأرض، فإن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة، وعاقبة العدل كريمة"[19] ويُروى: "أن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة" فلهذا أُسديَ الشُكر من قِبل بعض مسلمي الهند[20] لتلك الحكومة البريطانية المُحسنة الكريمة على ما قدمته من إنصافٍ وعدل لعموم أديان الهند ومنها دين الإسلام بعد أن كانت حقوقه في مهب الريح وأهله مظلومين...
الهوامش والمراجع
───────
[1] تعني كلمة السيخ الخالصة أي (الأخوة السيخية) وشعارهم يعرف بالكاهندا، وهو عبار عن خنجر ذي حدين تحيط به حلقة حديدية ويحيط بهذه الدائرة سيفات متقاطعان، وهذا الشعار يوجد باللون الأسود على علم السيخ القومي وهو عبارة عن مثلث زعفراني اللون.
[2] كان السيخ خلال حكمهم (إذ صاروا منذ سنة 1761م حكامًا لإقليم البنجاب حتى قدوم الإنجليز) وقد اشتهروا بالتعسف والظلم والجور والغلظة على المسلمين مثل: منعهم من أداء الفرائض الدينية، والأذان، وبناء المساجد في القرى التي يكونون فيها أكثرية، وذلك فضلاً عن المصادمات المسلحة بينهما، والتي يقتل فيها كثير من المسلمين الأبرياء، ومن الذين قُتل على أيديهم العالِم القائد شاه محمد إسماعيل الدهلوي، وهو المعروف بـ "إسماعيل الشهيد"، وذلك في معركة "بالاكوت" سنة 1246هـ (1831م)، رحمه الله. [السيخ"، عقيدتهم، منهجهم، موقفهم من المسلمين – الإسلام سؤال وجواب - تاريخ النشر: 22-02-2008]
[3] شركة الهند الشرقية هي مجموعة شركات تجارية متعددة الجنسيات الأوربية أرست بمراسيها في أرض الهند وكانت أشهر هذه الشركات "شركة الهند الشرقية البريطانية" فكانت بمثابة دولة لها جيش مستقل وأسطول وحكومة سيطرت على تجارة الهند واستحوذت شيًا فشيا على كامل الأراضي الهندية تحت مظلة التجارة، ثم تحول ذلك إلى السيطرة السياسية.
[4] المعلم مصطلح ديني عند السيخ يعني المرشد الروحي أو رجل الدين السيخي.
[5] السيخ في الهند، صراع الجغرافيا والعقيدة، همام هاشم الألوسي ط1، س2001، ص90
[6] المرجع السابق – ويلاحظ في هذه الفقرة أن استقلال الهند عن بريطانيا المستعمرة كان إيذانًا باندلاع المذابح التي كانت متوقفة بشكل كبير وقت الاستعمار البريطاني.
[7] حضرة مرزا غلام أحمد القادياني
[8] (الروم: 2-6)
[9] وهذا عين ما كان يقوم به حضرة مرزا غلام أحمد في ظل حكم البريطانيين على الهند، فكتب عديد من الكتب والرسائل الموجهة مباشرة للحكام والأمراء والملوك الإنجليز (الملكة فكتوريا) يدعوهم فيها إلى الإسلام ويرغبهم في ذلك، شأنه في ذلك شأن نبينا المُعظم محمد ﷺ حين راسل كسرى الفرس ونجاشي الحبشة وقيصر الروم ومقوقس مصر وغيرهم.
[10] الحسبة في الإسلام، أحمد عبد الحليم بن تيمية، دار الكتب العلمية ص13
[11] السلسلة الصحيحة للألباني ٣١٩٠ إسناده جيد.
[12] صحيح ابن ماجه ٣٢٣٦، صحيح مسلم، مسند أبو عوانة، والبيهقي في «الزهد الكبير»
[13] صحيح مسلم 2898
[14] (إنجيل متى 22/ 15-21)
[15] الإمام علي بن أبي طالب، نهج البلاغة، دار الكتاب المصري، ط4، 2004، ص481
[16] لم يداهن حضرة مرزا غلام أحمد مطلقًا حكومة الإمبراطورية البريطانية في الهند، بل كان حريصًا على تبليغ دعوة الإسلام إلى رؤوس القادة حتى وصلت رسالة للملكة فكتوريا وأمراء إنجلترا...
[17] تاريخ الفكر المسيحي عند آباء الكنيسة، المطران كريلس سليم بسترس – الأب حنا الفاخوري – الأب جوزيف العبسي البولسي، منشورات المكتبة البولسية، ط1، س2001، ص467
[19] المرجع السابق
[20] على رأسهم حضرة مرزا غلام أحمد زعيم قاديان والإمام المهدي المسيح الموعود عليه السلام، غير مخالف بذلك أي أمر في شريعة الإسلام ولم يكن من الخائنين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق