يرسخ في ذهن الغالبية الساحقة من الشباب المسلم اليوم، مثقفًا كان أو غير مُثقف، أن زعيم زعماء تُركيا في تاريخها المعاصر مصطفى كمال أتاتورك هو الذي أذهب مجد ما يسمونه بـ(الخلافة الإسلامية) المُمثلة في سلالة الدولة العثماني.
المتطلعون إلى منصب الخلافة وداعميهم
لقد رأى الشريف حسين حقًا له في الخلافة وبايعه الفلسطينيون والشوام والأردن.. وما أن شاع خبر إعلان الملك الشريف حسين تلقيه البيعة كخليفة، سارع الأزهر والتيار السلفي في مصر لدعم الملك فؤاد ليضم لقب الخليفة مع مُلك مصر والسودان وذلك بترتيبهم إعداد مؤتمر الخلافة في القاهرة، ونشطوا في إصدار مجلاتهم الخاصة حول هذا الشأن، وتشكيل لجان عن الخلافة للترويج لها كحق للملك فؤاد (مع أن السلطان العثماني"الذي يعتبرونه خليفة"لا زال موجودًا) وقد حصل الملك فؤاد على دعم الأمير عبدالقادر الجزائري بالبيعة، ثم أخذ الأزهر يصدر مقالات التخوين للشريف حسين المتطلع للخلافة ومن بايعه.
كما أعلن أمير أفغانستان الشاه "أمان الله خان" من جهته نيته في حمل لقب الخليفة أيضًا وقد لاقى دعم بعض من علماء الهند ومفكريها الإسلاميين وقتها.
دور الجهات الدينية في إسقاط ورقة التوت الأخيرة عن السلطان العثماني في الخلافة
فقبل أن تسقط السلطنة العثمانية سقوطًا
نهايًا لا رجعة فيه؛ احتدم الصراع الإسلامي على
الخلافة كمطمع سياسي (في حين أن صاحبها الذي اعتبروه خليفة لا زال حيًا يرزق!)
حدثت مفاجأة المفاجآت (التي يخفيها الآن أصحابها لضمان فاعلية واستمرار عنصر
التغييب وبرمجتهم لأدمغة الشباب) فقد حصل في تلك الأثناء أن اتفق الأزهر والسلفيين
معًا على إصدار فتوى دينية تفيد ببطلان بيعة السلطان عبدالمجيد خليفة للمسلمين!
(وهو لا زال على قيد الحياة!) وتمريرها على مؤتمر العالم الإسلامي في 1924م
نتيجة "مؤتمر الخلافة" الذي رتَّبته الجهات الدينية في مصر 1926م
تأجل انعقاد هذا المؤتمر لمدة عامين لكثير من الأسباب حتى انعقد قبل ثلاثة أيام فقط من وفاة سلف السلطان عبدالمجيد ورغم بقاء الأخير حيًا يُرزق، فمع ذلك لم يرجع أي من الأطراف المستفيدين والقائمين على المؤتمر لمدة عامين عما عزموا الخوض فيه، من إقامة خليفة جديد، بدلًا من دعم الخليفة الموجود والالتفاف حوله! وفي النهاية لم يُسفر هذا المؤتمر إلا عن فشل ذريع في اختيار أي من الثلاثة المتصارعين على الخلافة [الشريف حسين، والملك فؤاد، والأمير أمان الله خان] إذ تشتتت الأصوات، كلٌ لحساب ملِكهِ، فلم يحصل إجماع على واحد من المطروحة أسماءهم وتبددت الأصوات سُدى.
ثم انتهى المؤتمر بنتيجة غاية في الأهمية، ولا يمكن إغفالها إلا في حالة واحدة فقط وهي قصد التغفيل والتضليل على الحقيقة. فلقد كانت نتيجة المؤتمر النهائية نصًا كالتالي: "أن الخلافة الشرعية المُستجمعة لشروطها المُقررة في كتب الشريعة الغراء، التي من أهمها الدفاع عن حوزة الدين في جميع بلاد المسلمين، وتنفيذ أحكام الشريعة فيها، لا يمكن تحقيقها بالنسبة للحالة التي عليها المسلمون الآن" ففشلت المطامع للحكام، وتبين خُبث رجال الدين على مر السنين منذ ذاك الوقت وحتى الآن.. فبينما كان السلطان العثماني لا زال على قيد الحياة لم يفكر ولا حاكم من أولئك الطامعين في الشد من أزره ودعمه ودعوة كل مسلمي العالم الإسلامي للالتفاف حوله بنداءات ستكون مسموعة من رجال الدين ومؤسساتهم الدينية العتيدة (إن أرادوا).. ولكن لم يحصل أي من ذلك على الإطلاق، بل شاء الله أن يُسقِط الكُل بلا استثناء.
لسان حال الإسلاميون: "ماذا نحن فاعلون"!؟
تشويه مصطفى كمال أتاتورك من قبل رجال الدين في العالم الإسلامي لدرء تهمة إسقاط الخلافة عنهم
رأينا كيف سعى رجال الدين بأنفسهم على اختلاف مؤسساتهم لتلبية مطامع ملوكهم، ورأينا كيف انهارت كل تلك المساعي بأيديهم أيضًا ربما كيدًا في بعضهم البعض! ولكن بعدما زالت السكرة ورأوا أنهم أوقعوا أنفسهم في حيص بيص جائت الفكرة، فلم يعد في إمكانهم بعدما صنعوه أن يعيدوا المشهد بترتيب أوفق. فالفتوى ببطلان البيعة، والقرار بعدم إمكانية تحقيق الخلافة أصبح إلزاميًا بعدما ألزموا أنفسهم به. فقالوا بلسان الحال يا لا المصيبة، لا بد من ترتيب سيناريو ينطلي على الجيل المستقبلي درءًا عن أنفسنا هذا العمل وقد فعلنا ما فعلنا؟!! فتوصلوا إلى ضرورة تغييب الشباب عن هذه الفتوى وهذا القرار بالتدليس، ثم تلبيس الحقائق التاريخية حول الشخص الذي برز اسمه على رأس السياسة التركية خلفًا للسلطان. وبحِرَفية ومنهجية صارمة أصبح الشائع أن أتاتورك هو من أسقط الخلافة الإسلامية ذلك الكافر الداعر عدو الله والمسلمين!
ماذا فعل أتاتورك وماذا فُعل به؟ (إليك الحقيقة)
بعد هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الأولى صار السلطان العثماني عبدالحميد أسير توجيهات دول الحلفاء المنتصرين وخاصة إنجلترا، بعدما وقعت معظم الأراضي التركية تحت سيطرة الحلفاء. فقام السلطان العثماني حينها بتكليف القائد مصطفى كمال بتفكيك بقية الجيوش العثمانية انصياعًا لتوجيهات الحلفاء.. فما كان من مصطفى كمال إلا أن أعلن عن حركة مقاومة عسكرية منظمة ضد الاحتلال.
في مقابل تصرف مصطفى كمال هذا فاجأ السلطان العثماني الأتراك بتحالفه مع الحلفاء الذين هزموه في الحرب وكون جيشًا لتأديب مصطفى كمال وسماه جيش الخليفة. ولكن بائت مهمة هذا الجيش (جيش الخليفة) بالخسران، فقد انضم معظم أفراده بحسب الحس الوطني إلى جانب مصطفى كمال، رافضين تحالف السلطان العثماني مع الاحتلال. ثم استمر مصطفى كمال في حرب التحرير حتى عاد بتركيا محررة من جديد بعد سيطرة الحلفاء عليها لعام ونصف. حينها فر السلطان العثماني، بنفسه ليس منفيًا، تاركًا استانبول «القسطنطينية» (التي كادت أن تضيع إذ كانت مُحتلة في عهده من جيوش الحلفاء "إنجلترا، فرنسا" في وجود السلطان العثماني حتى حررها مصطفى كمال) فتركها السلطان العثماني فارًا بمساعدة الإنجليز إلى إيطاليا حيث توفي.
وبتحرير مصطفى كمال لتركيا من قبضة احتلال الحلفاء واليونان أصبح بالنسبة للعالم الإسلامي نجم الإسلام ومحرر تركيا الهُمام، وفي المقابل أصدر السلطان العثماني عبدالمجيد وشيخ إسلامه بإيعاز من قوات الحلفاء أن مصطفى كمال خائن ومتمرد وعاصٍ ومهدور دمه! حتى دخل مصطفى كمال إستانبول محررًا، طلب السلطان العثماني حينها حماية إنجلترا فتم نقله بمعرفة الإنجليز إلى إيطاليا، ولما غادر السلطان كان بديهيًا للوضع السياسي التركي أن يتم عزله رسميًا وتعيين خلفًا له.
فخلفه ولي عهده السلطان عبد المجيد الثاني الذي أفتى بخصوصه جموع علماء العالم الإسلامي في المؤتمر الإسلامي المنعقد في 25 مارس 1924 برئاسة شيخ الجامع الأزهر ومشاركة التيار الإسلامي السلفي في مصر ببطلان بيعته في الفتوى الصادرة عنهم بنفس التاريخ. ثم أكد هؤلاء العلماء وزيادة أيضًا من علماء العالم الإسلامي في مؤتمر الخلافة العالمي المنعقد في 1926 برعاية الأزهر الشريف والتيار السلفي الذي أقيم في القاهرة بعدم إمكانية قيام الخلافة الإسلامية في هذا العصر فتم إسقاط فكرة الخلافة تمامًا برعايتهم الكاملة■.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق