انتهينا في موضوعين سابقين بأنه ليس من الذين سجّلوا لحدث
الصعود المزعوم وهما اثنين مرقس ولوقا شاهد عيان واحد؛ وإنه حتى من الذين حضروا
وقت الحدث ومنهم من له تسجيلًا لحياة المسيح، لم يذكر مثل هذا الزعم.. ولقد كشفنا عقليًا مدعومًا بالنقل أنهُ لا يُقبل مثل نص كتبه مرقس قائلًا: «ثم إن الرب بعدما كلمهم
ارتفع إلى السماء، وجلس عن يمين الله».
[الدليل الخامس]
لقد ادعينا أن قول مثل هذا «جلس عن يمين الله» هو من
قبيل المجاز والاستعارات من باب التصورات الجمالية جهة المعتقدات المُقدسة، وكان
لزامًا علينا أن ندعم ادعاءنا هذا بدليل كتابي كما هو منهجنا في هذه المواضيع
العقلية المُقدمة لإخوتنا من المسيحيين.
ولقد قرر أحد الذين سجّلوا الحدث دون معاينة مباشرة منه
فقال: «لأن داود لم يصعد إلى السماوات. وهو نفسه يقول: "قال الرب لربي: اجلس
عن يميني حتى أضع اعداءك موطئًا لقدميك"» [أع:2/ 34-35] وهو تقرير رائج في الكتاب حيث ورد
في [مز110/ 1] و[مت22/ 44] و[مر12/ 36] و[لو20/ 42-43] و[عب1/ 13] فهي نبوءة إذن. ومن العقل
استلامها هكذا:ـ
↓
إذا كان التجسد حقيقة فلا يمكن أن يكون هذا التجسد ملء
السماوات والأرض، ولكن في شخص يسوع المسيح فقط قد كان، أليس كذلك؟! فإذا كان كذلك. فإن القول بشرط
الجلوس عن يمين الله هو حدث صعود واقعي حقيقي
ومادي، لأصبح جواب الشرط الذي هو "حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك" في خبر كان، إذ سيكون تحققه وهمًا معنويًا وليس بالحقيقة
هو..
فإذا كان يسوع صعد صعودًا ماديًا حقيقيًا حقًا فلقد تحقق
بصعوده المادي هذا شطر النبوءة الأول الذي هو «اجلس عن يميني» بشكل مادي فقط، ولكن
يبقى شطرها الثاني وهو الغاية المتوخاة من النبوءة في حد ذاتها لتبقى بدون تحقق
فعلي حقيقي، وإنما تبقى الغاية من النبوءة في إطار الفهم الروحاني فحسب! وهذا ليس
فهمًا منطقيًا ولا عقليًا فإما أن تكون النبوءة كلها مادية وإما أن تكون كلها
روحانية. ولكن إذا عزمنا على شطرها تعسفًا فالعقل إذن يُحتًّم أن تكون النتيجة
ملموسة، لأنها مناط التصديق الفعلي. بمعنى أننا لو لم نرى تحقق خبر أن العدا
أصبحوا أذلة تحت قدمي يسوع يطئهم بها فليس لنا أن نصدق كامل الخبر، ولسنا مؤاخذين
أيضًا.. لأنه إن كان حدث الصعود قد عاينه جدلًا أحد عشر تلميذًا فقط فهو يبقى غير ملزم
ليصدقه آخرين لم يروا، خاصة مع مخالفته صراحةً لآيات من الكتاب. وإنَّ حدث ذلة الأعداء سيكون
مرئيًا للجميع فهو الأولى بالتحقق المادي إذن.
فالسؤال الآن هل تحقق شطر النبوة الأهم «حتى أضع اعداءك موطئًا
لقدميك»؟؟
الحق أن ذلك لم يتحقق لا بشكل مادي ولا حتى بشكل معنوي،
فالحاصل أن المسيح اعتُقل وحوكم ونال تُهمة عن شهود زور فاقتيد ليُجلد ثم اقتيد
ليُصلب وبُصق عليه واستُهزئ به وعُرّيَ وألبس لباسًا ساخرًا ثم وضع على صليب وأوذي وتألم وطُعن ثم وضع في قبر
هكذا سريعًا وبلا مراسم دفن ثم تُرك.. الحق أن كل هذا يعبر عن عكس ما جاء بالنبوة "حتى
أضع اعداءك موطئًا لقدميك" بشكل تام، فكان يسوع في الواقع هو موطئًا لأقدام عدوه وبشكل سافر! (ولكن فلنقل أن كل ذلك كان من ضرورات الفداء) إلا أنه بعد ذلك ─أي بعد تمام الفداء─ لمّا
قام، كان متخفيًا أيضًا، فلم يلتق بأعداءه لمواجهتهم ليتسنى لنا حتى إمكانية القول بتحقق تلك النبوءة
التائهة ولو بلمحة في الواقع! بل بالكاد التقى بمريديه!! ثم ابتعد قدر الإمكان عن
وجود مطارديه، ثم هرب؛ وانتهت القصة‼
وفي الواقع لم تشم المسيحية نفَسَهَا بشيء من الحُرية إلا في القرن الثالث من ميلاد المسيح حين أقر الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الأول مرسومه الشهير بمرسوم ميلان 312م حيث نص هذا المرسوم على التصريح لمعتنقي الديانة المسيحية بأن يمارسوا طقوسهم الدينية علنًا؛ وهذا المرسوم كما هو ثابت تاريخيًا ليس نابع من إيمان ديني مطلق من الإمبراطور قسطنطين، بل كان له أسباب سياسية محضة..
وفي الواقع لم تشم المسيحية نفَسَهَا بشيء من الحُرية إلا في القرن الثالث من ميلاد المسيح حين أقر الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الأول مرسومه الشهير بمرسوم ميلان 312م حيث نص هذا المرسوم على التصريح لمعتنقي الديانة المسيحية بأن يمارسوا طقوسهم الدينية علنًا؛ وهذا المرسوم كما هو ثابت تاريخيًا ليس نابع من إيمان ديني مطلق من الإمبراطور قسطنطين، بل كان له أسباب سياسية محضة..
فأين تحقق النبوءة؟! في الواقع لا يهتم كافة المسيحيون
بكل هذا.. أو لعلهم لا يلاحظونه، المهم أن يكون شطر مقدمة الشرط «اجلس عن يميني» قد تحقق
ظنيًا فحسب، وما هو إلا اتباع خرافة الظن وما يغني الظن عن الحق شيئًا، فَهُم غير مدركين بأنه لا معنى لمقدمة الشرط بدون تحقق جوابه الذي هو جواب الشرط،
وإلا لأصبح شرطًا سلبيًا ولا يُأبه له في الحقيقة. فإذا كانت غاية الله من كل ما حدث للمسيح من أجل البشرية هو لمجرد أن يجلس بجانبه فحسب، إذا كان هذا ما يقصده الله فليس هذا في الحقيقة بالأمر العظيم ─فالمعلوم بداهةً أن الله عظيم بذاته─ إلا أن ذلك يكون مدعاة للضحك والإلحاد، وإن استمرار التفوّه بهذا الأمر (الإجلاس عن يمين الله) يعطي للمعارضين فرصة للسخرية لأنه لو فُقدت الغاية المتوخاة فما الفائدة من مجرد الجلوس؟!
وبهذا يفقد الادعاء بالصعود المادي المُمثل في القول
(جلس عن يمين الله) كل دعائمه الكتابية العقلية والنقلية، إذ لم يُعطي أي إيجابية منه في
حد ذاته، كما لم يُحقق الإيجابية المتوقعة من حدوثه والمُمثلة في النص «حتى أضع اعداءك
موطئًا لقدميك» ■
:.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق