في موضوع سابق (موجود في التعليقات) تناولت رمز العنخ في الحضارة المصرية القديمة ووضحت فلسفة معنى كلمة "عنخ" من خلال الكشف عن مصدر وجذر اللفظ في اللغة العربية اللي لولاها كان هيبقى مصطلح هام ورئيسي زي ده مجرد اسم أو كلمة هايمة ملهاش أصل بتعتمد عليه في تبيان معناها اللي اتعرفت بيه أو اللي أصبح متعارف عليه بين الناس.
ومن الرموز الرئيسية والمقدسة في الحضارة المصرية القديمة رمز [الچِد - 𓊽] اللي بيرمز للبقاء والثبات والاستقرار.
بس السؤال دلوقتي هو ليه اتسمى «چد»؟ وإيه علاقة الاسم بالشكل ده 𓊽؟ وإيه المعنى التفصيلي للشكل ده؟
وباختصار وفي جملة واحدة، إيه هي فلسفة الاسم «چد» والمسمى 𓊽؟
● اللغة العربية السبيل للمعرفة
وكالعادة، في المواضيع اللي زي دي، هقول وهكرر إن بدون اللجوء للغة العربية الفصيحة مش هنعرف السبب في اعتبار معنى كلمة "چد" هو البقاء والثبات والاستقرار في الثقافة المصرية القديمة، وكنا هنعتبرها مجرد لفظة لسانية مش أكتر، ككلمة اتقالت بالصدفة ف الحياة المصرية القديمة (طق حنك) واتحفظت في الذاكرة وخلاص بدون فلسفة منطقية لظهورها.. ولو الموضوع كده، تبقى دي للأسف ضحالة معرفية في الفهم، لأنها مبتتحراش أسباب نشوء المصطلحات، وبتكتفي بالمظهرية المريحة وبتفرح بيها؛ وده مبيوافقش الوعي الفائق المعروف للمصري القديم وعلمه ومدى إدراكه للمحيط حواليه وتحضره.. علشان كده احنا بنكتب المواضيع التأصيلية دي للاطلاع على مدى وعي المصري القديم وثقافته.
● أسماء ملكية تحمل رمز الچد
من أبرز وأشهر الأسماء الملكية اللي بتحمل لفظة "چد" هو اسم الملك چدف رع (چد-إف-رع) واللي معناه الثابت مثل رع، وحرفيًا يعني الآتي أو القائم بثبات رع
(ملحوظة: كلمة "إف" في الاسم الملكي ده لها تأصيل لغوي عربي برضو، لكن منعًا لتشعيب الموضوع هنفرد لها مقال مخصص بشكل وافي)
نرجع لكلمة "چد"
فبترجع كلمة "چد" المستعملة كتير في مصر القديمة بمعني البقاء والثبات والاستقرار، واللي بنلاقيها أكتر ما بنلاقيها موجودة مقترنة بأسماء الملوك مع أسماء الآلهة، بترجع في أصلها المباشر للجذر اللغوي العربي [جد] والجذر ده بيخرج منه ٣ أصول بحسب كلام اللغوي أحمد بن فارس (ت ٣٩٥م) في معجمه "مقاييس اللغة". والأصول التلاتة دي هي العظمة، الحظ أو الغنى، والقطع.
اللافت في الأمر هو مرادفة معاني الأصول التلاتة دي للجذر العربي "جد" لمعاني رمز «چد» اللي وصلت لينا واللي هي: الثبات، البقاء، والاستقرار.
● ثبت بتكافؤ الألفاظ
(العظمة ≡ الثبات)، (الحظ أو الغنى ≡ البقاء)، (القطع ≡ الاستقرار)
— بتذكر المعاجم العربية عن اللفظة دي الكلام التالي: تقول العرب "جد الرجل في عيني أي عظم". والعظمة مبتلحقش بالشيء بدون الرسوخ والثبات فيه، فالمهتز والمتردد مينفعش نقول عليه عظيم، كمان الثبات بيعطي انطباع الهيبة ومنها بتظهر العظمة. إذن فالعظمة والثبات حالتين متكافئتان في المعنى.
— وقال ابن فارس صاحب المعجم في تعليقه على الدعاء النبوي «لا يَنْفَعُ ذا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ» يعني مش هينفع صاحب الحظ غناه بحظه عن طاعته لله. لأن الحظ الحقيقي هو مظهر البقاء، ومفيش بقاء حقيقي بدون حظ وإلا فهو عين الردى يعني الموت الروحي. والله عز وجل بيقول عن المسارعين في الكفر: «یُرِیدُ ٱللَّهُ أَلَّا یَجۡعَلَ لَهُمۡ حَظࣰّا فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِۖ» يعني ملهمش بقاء ولا نصيب في الآخرة.
— أما عن تكافؤ الاستقرار بالقطع، فبيقول ابن فارس في معجمه إن القطع هو العزم والصرامة بالحزم. ودي من المقومات الأساسية للاستقرار في المجتمعات، على عكس اللين اللي بيشجع على التمرد والمروق والشغب والاضطراب. وقال إنه بيتفرع من الأصل ده [جد] كمان "الجدجد أي الأرض المستوية" وبتقول العرب: "من سلك الجدجد أمن العثار" يعني من مشىٰ في الطريق المستوي ضمن الاستقرار في سيره لحد الوصول.
● تفصيل شكل الرمز چد 𓊽 وعلاقته بالمعاني اللغوية
شاع بين علماء المصريات بأن الرمز 𓊽 هو صورة تمثيلية للعمود الفقري للإنسان، لمجرد إنهم لقوه مرسوم في ظهر توابيت الدفن ومكان مرقد المتوفي! وده في الحقيقة اتجاه غير موفق، وعلى الرغم من إنه مش غلط تمامًا لكنه مش تمثيل دقيق للرمز أبدًا.
أما التمثيل الأدق فهو إن رمز الچد 𓊽 متاخد من شكل جذع النبات اللي بيخترق سطح الأرض وبيتجه للأعلى.
لقيت أفضل تصوير تشريحي ليه في الآية القرآنية «وَٱللَّهُ أَنۢبَتَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ نَبَاتࣰا ٭ ثُمَّ یُعِیدُكُمۡ فِیهَا وَیُخۡرِجُكُمۡ إِخۡرَاجࣰا» يعني يخرجكم إلى الحالة اللانهائة "دار القرار" وهي المرموز لها في المصرية القديمة بالشكل ده 𓁨 وهو اللي بيعبر عن الإله الماسِك للسماء، وبيكون في النقوش غالبًا على قمة عمود الچد.
إذن فرمز الچد هو شكل لساق النبات النابت من الأرض ويمكن تصوره في ساق النخلة أو القصب، فبعد ظهور الساق على السطح بعد إنباته في داخل الأرض «أَنۢبَتَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ نَبَاتࣰا»، واللي بدون تهيئ البذرة وثبات التربة مش هيحصل نمو ولا ظهور أصلًا. وفي حالة ظهور الساق بتبدأ عملية تكرار مستمرة لنمو الساق ده، وبيضمن النبات البقاء في حالة حالفه الحظ الكويس، فبيظهر فيه مظهر الغنى في النمو فبيتكرر زي تكرار الأدوار أو الطوابق كده اللي هي عُقلات النبات المتكررة «ثُمَّ یُعِیدُكُمۡ فِیهَا» وفي نهاية دورة التكرار دي بتبدأ مرحلة الخروج «وَیُخۡرِجُكُمۡ إِخۡرَاجࣰا» إلى العالم الآخر «وَإِنَّ ٱلۡـَٔاخِرَةَ هِیَ دَارُ ٱلۡقَرَارِ» يعني الاستقرار، واللي هو الغاية اللي بيصبو إليها رمز الچد واللي مش هتتحقق في الأنسان إلا بعد اجتيازه مراحل عظمة الإيمان بالبقاء على الثبات.
● الصوت عربي
كان رمز الچد في مبدأ ظهوره مجرد رمز كتابي تعبيري ككلمة دالة على معانيها الروحية مش أكتر، وكان ده في عصر ما قبل الأسرات بفترة كبيرة جدًا، لكن مع طول الزمن أخذت الكلمة شكل التميمة للتبرك بيها وبعدين تطور الأمر وأخذت وضع النُصب المقدسة.
ومن المعروف إن المصري القديم كان أسلوبه في الكتابة هو إنه كان بيصور مظهر الحالة في شكل تعبيري مطابق للمظاهر الحياتية حواليه، لكن السؤال هنا هو جه منين صوت نطق الرمز 𓊽 علشان يكون چد؟! وهنا أقدر بكل ثقة مبنية على معرفة يقينية إن الصوت ده جه من اللغة العربية، والمعلوم إن اللغة سبقت الكتابة بفترة كبيرة، فكان لفظ الچد موجود قبل مظهره الرمزي 𓊽 اللي ظهر بس مع بداية نشوء الكتابة، وإلا فالرمز في حد ذاته مبيحملش المعاني الوفيرة اللي بيحملها اللفظ.
يعني باختصار، لا احنا ولا حتى المصري القديم مكناش هنعرف إن الرمز ده 𓊽 بيعني كذا وكذا وكذا إلا بمعرفة لفظ چد واللي هو ملهوش معاني منطقية إلا في اللغة العربية.
● تعقيب أخير
أوقات بينطق لفظ «چد» بتعطيش شديد للجيم بحيث يكون (دجد) وأوقات بتخفف الجيم لدرجة تنطق دال فقط فتكون الكلمة (دد) ففي الواقع إن كل الأحوال دي تحويرات لسانية بحسب المناطق الجغرافية مش أكتر، فالشخص الناطق للفظ بالشكل (دجد) هو في النهاية بيكتبها "جد"، وكذلك الشخص اللي بينطقها (دد) بيكتبها برضو "جد". يعني النطق ممكن يختلف بحسب قدرة اللسان لكن بيبقى رسم اللفظ ثابت.