السبب وراء هذا الموضوع
:.:
صدر مؤخرًا عن شركة Google إصدار عدد من لوحات المفاتيح للهواتف النقالة بحروف عدد من اللغات
القديمة والحديثة، وكان من ضمنها حروف الكتابة القبطية، وقد قوبل هذا الأمر من
شركة Google
مشكورةً عليها، قوبل من كثيرين أدعياء الثقافة والتنور بأنها خطوة بارزة لإحياء اللغة
المصرية القديمة كخطوة أولى لإحياء الحضارة المصرية القديمة.. ما دفعني من وقتها
لبدء عمل بحثي مختزل وغير مُخل حول هذا الموضوع، ذلك لمعرفتي المسبقة حسب دراستي
بأن هذه الأبجدية لا تمُت لهوية مصر القديمة بِصلة، بل إنها دخيلة على الحضارة
المصرية القديمة، ولا تُعبر عن مصر ولا عن المصريين.
فما هي قصة ما تُسمى باللغة القبطية (الكتابة
القبطية)؟ ومتى ظهرت؟ وما أسباب ظهورها؟ وما الفرق بينها وبين لغة المصريين
القدماء وكتابتهم؟
كل هذا سنثيره ونجيب عليه بحثًا وتوثيقًا
تاريخيًا في الأسطر القليلة التالية.
الغزو المقدوني (اليوناني، الإغريقي)
:.:
في أواخر عهد الأسرات المصرية القديمة. تعرضت
مصر القديمة خلال حكم الأسرة الثلاثين المصرية لغارات الإمبراطورية الفارسية
من ناحية الشرق، والتي استولت على مصر أخيرًا وضمتها لممتلكاتها لمدة جاوزت المائة
عام بقليل. ذلك حتى غزا الإسكندر المقدوني مصر وانتزعها من الفرس، وظل يحكمها هو
وأسرته وقادته من بعدهم وأبنائهم لمدة ثلاثمائة سنة تقريبًا.
وفي هذه الفترة الطويلة لوجود اليونانيين في
مصر حاول اليونان بمختلف الطرق ترسيخ ثقافتهم فيها، وكان من أهم تلك الطرق هو
إشاعة الثقافة اليونانية شيئًا فشيئًا على حساب الثقافة المصرية، ونستطيع أن نقول
أنهم نجحوا في ذلك إلى حدٍ كبير بحسب المدة التي قضوها في مصر وهي ليست بالفترة الهينة
في عرف التاريخ.
ولكن وللأسف كثيرًا ما يختلط على العامة وأكثر
المتخصصين ─مثلًا─ أن كليوباترا السابعة تلك الملكة اليونانية الشهيرة وهي آخر من
حكم مصر من الأسرة المقدونية البطلمية اليونانية، فيعتبرونها ملكة مصرية!! (يالا
الهول) والمشكلة إننا إن واجهنا أحد ممن يقول ذلك بعرض عليه حقيقة كونها يونانية خالصة
وليست مصرية أبدًا، تجده يسارع في إبراز ما قد يجعل الشخص يتوقف عن الكلام في هذا
الشأن في أغلب الأحيان. إذ يقول "ولكنها أحبت مصر أكثر من كثير من
المصريين"!! فهنا يعم الصمت، إذ صار دائمًا الاختلاف في مثل هذه الحقائق يؤدي
بالطرف صاحب المعلومات المُرسلة معدوم المعلومات الموثقة إلى تخوين الآخر صاحب المعلومة الحقة بسهولة ويُسر!
ولكننا هنا نعرض الحقائق بغض النظر عن رؤية
الآخرين العاطفية والسخيفة للتاريخ.
سبب الخلط واللبس
:.:
لقد تسبب في هذا اللبس المعلوماتي أمر تاريخي
هام واجه الملوك والحُكَّام البطالمة في بداية وجودهم في الشرق (وفي مصر خاصة) وهو:
■ تراجع نُظم الحكم المقدونية أمام نظام
الحكم المصري. ليس لأن نظام الحكم المصري أفضل من نظم الحكم اليونانية المقدونية،
ولكن لأن نظم الحكم الشرقية ─ومن ضمنها مصر─ كانت نظم حكم وراثية، بينما كانت نظم
الحكم اليونانية تعتمد على تعيين الجيش للملك أو الحاكم بشكل أساسي، مع عدم تدخل
الجيش في سياسة الحكم، فقط يظهر حين انتقال السلطة، ولا يكون الحكم وراثيًا. أما في مصر فإن نظام الحكم يكون مَلكيًا
مُطلقًا ووراثيًا بل وإلهيًا أيضًا، فلم يدُر في تصور المصري القديم آنذاك أن يكون
مَلك البلاد ليس إلهًا يُعبد. [محمود
إبراهيم السعدني، تاريخ مصر في عصري البطالمة والرومان].
وقد سبب ذلك الأمر بالذات خلط واضح عند
الكثيرين، الذين رأوا الملوك البطالمة مُصورين على جدران المعابد ويقدمون القرابين
لآمون رع وغيره من الآلهة المصرية المشهورة، ─كما كان ملوك مصر القديمة يفعلون─ وحولهم نصوص
كتابية هيروغليفية تدل على التقديس، فتراوح ظن الناس الآن بين اعتبار بعض أولئك
الملوك إما مصريين أو اعتبارهم انصهروا في الثقافة والدين المصري.. ففعلوا كما كان
يفعل مع ملوك مصر القديمة كذلك. إلا أن الحقيقة هي أن ملوك البطالمة
كانوا مُضطرين إلى ذلك بسبب ميل الشعب المصري إلى فرعنة حاكمة وتأليهه.. وقد استحسن البطالمة
في نفس الوقت ذلك التبجيل، فالبطالمة أولًا لم يطلبوا هذا التقديس، وهو ليس في نظمهم
الحاكمة، إلا أنهم وجدوا المصريون يحبون ذلك ويطلبونه، ولولاه ما خضعوا لحكمهم
تمام الخضوع (وكما نقول في العامية المصرية لاستيهفوهم أو قلوا في نظرهم على الأقل
وما كانت لهم هيبة في قلوب الشعب).
فلماذا لا يأخذ القادة المقدونيين بتلك الميزات
المجانية الفائقة وهي تحقق وتضمن لهم كافة أطماعهم واستقرار سلطانهم؟! [محمود إبراهيم السعدني، تاريخ مصر في عصري البطالمة
والرومان]
فمن ذلك ظن عامة المصريين وكثير من المثقفين منهم أيضًا أن الوجود اليوناني انصهر في المُجتمع المصري القديم، وهذا غير صحيح
بالمرة، بل إن الوجود اليوناني في الواقع سحق الوجود المصري القديم تمامًا سواء على الجانب السياسي أو الاقتصادي
والاجتماعي والثقافي والديني أيضًا.. وكل ما كان يهم المصري القديم وقتها هو أن
يكون الملك هو الإله أو ابن الإله، وإلا فلا يليق به أن يحكمهم، ولأجل ذلك فكان
واجبًا على الملك اليوناني أن يكون هو القائد الفعلي سياسيًا وعسكريًا ودينيًا
أيضًا.
استخدام الهيروغليفية لأجلٍ مسمى
:.:
فكانت هذه الصيغة السياسية والدينية للحكم
عند ملوك اليونان تُحتم عليهم ترويج نفوذهم الديني للمصريين، في المدن والأقاليم حتى
النائية منها على حدٍ سواء، ولم يتاح ذلك إلا من خلال الكتابة المصرية المعهودة لمعرفة ذلك، أي
الهيروغليفية، خاصة في صيغة المعابد (فقط لإيصال الرسالة وترسيخها) أما ما خلاف
ذلك، حول نظم الإدارة والثقافة الخاصة والعامة فقد تم أغرقة كل ذلك تمامًا، وفي
سبيله تم توطين آلاف من اليونانيين في مصر، وتنظيم وتشجيع الهجرة من اليونان إلى
مصر، ومنح الجنود الإغريق والمواطنين منهم الأراضي والإقطاعيات على حساب المواطن المصري..
[المرجع السابق]
كل هذا يؤكد خفوت الهوية المصرية وقت الوجود
البطلمي اليوناني في مصر، منذ بدايته. ولعل الكم الهائل من الوثائق البردية
اليونانية واللاتينة المُكتشفة في أقاليم مصر الداخلية والنائية بالمقارنة مع قلة
قليلة من الوثائق المكتوبة بالهيروغليفية [المرجع السابق] لَتعبير واضح على اهتمام الإغريق بالمحليات وأغرقتها ─أي جعلها إغريقية─ اجتماعيًا وثقافيًا ودينيًا.. سعيًا لإقرار نظام حكم مركزي مُطلق كما
يُحب المصريين.
فنحن بذلك إذن أمام تصورين لا ثالث لهما، حول
ظهور حروف ما يُسمى باللغة القبطية هما:
(1) – أنها ظهرت نتيجة الأغرقة التامة للحياة العامة
المصرية في سبيل الحكم المركزي ومتابعة أحوال الأقاليم.
(2) – أنها فُرضت
جبرًا كحروف هجائية للتعاملات اليومية في الأقاليم. وفي المدن الرئيسية التي كانت
مركز تابع للإدارة الحاكمة مباشرة.
وقولنا بأن اللغة اليونانية فُرضت جبرًا في أقاليم
مصر المختلفة راجع إلى عدة أسباب هي:
:.:
(•) أن الأمة المصرية في فترة حكم الرومانيين ─الوجود الروماني الذي أعقب الوجود
اليوناني في مصر─ ظلت محافظة على لغتها القديمة لا تتكلم إلا بها، ولو أنها كانت قد استعاضت
من كتابتها بالخط الهيروغليفي بالحروف اليونانية المُستعملة الآن. [لجنة التاريخ القبطي، تاريخ الأمة القبطية ح2،
خلاصة تاريخ المسيحية في مصر ط1925، ص126]. ولو أن هذا التحدث باللغة المصرية القديمة كان في إطار
محدود جدًا وغير رسمي وغير عام. ومثاله التحدث الأسري، أما في الأعمال والوظائف
العامة والرسمية فقد كانت اليونانية هي السائدة.
(••) قلنا في السابق أن الحكام البطالمة الأوائل
شجعوا الهجرات اليونانية الكثيفة إلى مصر، ومنحوا الجنود الأراضي والإقطاعيات على
حساب المواطن المصري، الذي اُستُغل على خلفيتها أيما استغلال سواء بنهب أراضيه أو
بتسخيره في العمل بالأجرة في أرضه. ويبدو أن هذه العطاءات السخية من الملوك
البطالمة للجنود اليونانيين أدت مع الزمن إلى كسلهم وذراريهم عن أمور القتال
والمعارك وخوض الحروب فيما بعد، حتى اضطُر الملك بطليموس الرابع (فلوباتر) إلى
تكوين جيش من عامة المصريين لمواجهة غزوة أنتيخوس الثالث الشرقية على مصر 217 ق.م.
فلما تسلح المصريون لأول مرة في عهد البطالمة شعروا بقوتهم وبدأوا يقوضون سلطان
اليونان في وادي النيل [ول ديورانت، قصة الحضارة، حياة اليونان – ترجمة محمد بدران، ج3 من مجلد2
(8) بيروت-تونس ص63، 64]
وهذه الحادثة تؤكد كون اللغة اليونانية نطقًا وكتابة، هي التي كانت
صاحبة السيادة الرسمية على مصر وشعبها، كما أنها تعطي انطباع الجبر في ذلك، فمن
ناحية كان المصريون يُعامَلون كسُخرة في الجيش اليوناني، إذ لم يُلجأ إليهم إلا
اضطرارًا حين أحجم اليونانيين؛ أما في حال اليونان فما كان للقادة الحربيين أو
الملوك البطالمة أن يثقوا في عامة المصريين ثقة تامة. ويبدو أن ما نتج عن هذه الحادثة أكد
على أن نظرة البطالمة تلك كانت في محلها.
(•••) أن الأبجدية القبطية تتكون من 32 حرفًا، منهم 24 من أصل يوناني، و 7 أحرف [Ϣ Ϥ Ϧ Ϩ Ϫ Ϭ Ϯ] هي من أصل ديموطيقي (والديموطيقية
هي الشكل الثالث من أشكال أحرف الكتابة المصرية القديمة)، بالإضافة إلى
حرف سادس (ⲋ) الذي
لا يدخل في تكوين الكلمات بل يستعمل كرقم 6. فوجود الحروف السبعة الديموطيقية (المصرية القديمة) لَتدل
بدلالة واضحة على الصراع الكتابي اللغوي الذي حصل قبل أن تفرض اللغة الجديدة
سيادتها وهيمنتها.
ولكن ومع ذلك، فقد اتسقت في النهاية الحياة
العامة المصرية إبان الوجود اليوناني وحتى بعد ذلك بكثير باعتماد اللغة اليونانية الخالصة
كلغة قومية للإمبراطورية اليونانية، وحصل بفضل انتشارها وحدة ثقافية دامت في بلاد
البحر المتوسط ما يقرب من ألف عام، وقد كانت هذه اللغة اليونانية هي لغة العلم والعالم
وقتها [المرجع السابق ص88].
لغة الانعزال
:.:
وفي الخلاصة، نقول أن
الكتابة القبطية نشأت بسبب الانعزال المصري الذاتي في الواقع، فعلى الرغم من كون
اليونانية هي لغة العلم حينذاك، إلا أن مصر الشعبية على ما يبدو لم تستطع الاندماج ضمن هذا
الإطار الثقافي العالمي. ربما بسبب الاضطهاد الحاصل من اليونانيين على المصريين
أثناء فترة الاحتلال اليوناني لمصر [332 ق.م ─ 30 ق.م] وهضْم حقوق المصريين، فكان
المصريون ولأسباب الرفض والمقاومة يتكلمون لغتهم المصرية ولكن بحروف يونانية أثناء
الكتابة ─وفي إطار محدود أيضًا─ درءًا للملاحقة الأمنية، لأن الكتابة المصرية
القديمة بأساليبها الهيروغليفية والهيراطيقية والديموطيقية كان قد تم حظرها، وهكذا
حتى ترسخت الكتابة بالأحرف اليونانية على حساب أحرف الكتابة المصرية الأصلية التي
اختفت تمامًا.
الدور المسيحي
:.:
لم تكن المسيحية التي دخلت بذرتها الأولى إلى مصر في 61م لها علاقة
باللغة القبطية سالفة الذكر إلا من خلال حملها للغة اليونانية أُم حروف اللغة القبطية، بدخول
القديس مرقس الإنجيلي إلى مصر، وكانت الرسائل المسيحية المتداولة وقتها مكتوبة
باليونانية. لكن ولكي تلقى هذه الكتب المقدسة والرسائل الدينية رواجًا لدى المصريين تمت ترجمتها بعد
فترة كبيرة من ذلك، أي بعد حوالي 150 سنة إلى تلك اللغة الهجينة المُسماة بالقبطية. وقد ساعد
تداولها الطقسي المسيحي في رواجها نسبيًا في مصر، خاصة مع اختفاء سبب تواريها، فقد انتهى
عهد الاحتلال اليوناني، وجاء الرومان حاكمين جدد على مصر وكامل حوض البحر المتوسط
أيضًا، والذين لم يلتفتوا لتوحيد الثقافة تحت لغة واحدة كما كان يفعل اليونان ─وإن كانت اليونانية كانت
لا تزال حينئذ هي اللغة السائدة للعلم أيضًا─ فقد أعطى الرومان للأقاليم التي كانوا يحكمونا
ومنها مصر الحرية في هذا الشأن مع الإمساك بصرامة في كثير من الشؤون السيادية الأخرى،
ورغم حصول ذلك وانفكاك القيد لم تعُد اللغة المصرية القديمة بحروفها المميزة وأشكالها
الهيروغليفية والهيراطيقية والديموطيقية إلى الحياة مرة أخرى، بل ظلت الكتابة الهجينة
والمنحدرة من اليونانية هي التي تطفو على السطح، آخذة مسمى من ينطقونها أي القبط،
فصارت القبطية.
الكتابة المصرية القديمة
:.:
أما الكتابة المصرية القديمة فهي التصوير الحرفي للغة المصري القديم، ولها
ثلاثة أشكال كانت تُستعمل بشكل متزامن، وليست تطور زمني لنفس الحرف كما
يظن البعض.
وهذه الأشكال هي:
(1) الكتابة المصرية
«الهيروغليفية» والتي كانت خاصة بالمعابد والنُصب التذكارية والتماثيل لتسجيل
الأحداث بخط فني وزخرفي جميل.
(2) الكتابة المصرية «الهيراطيقية» وهي تبسيط للهيروغليفية لملائمة
الكتابة السريعة وللأغراض العملية.
(3) الكتابة المصرية «الديموطيقية» وهي تبسيط للهيراطيقية وكانت أسلوب
كتابي سريع خاص بالكهنة والكتبة في المناصب الحكومية.
مصير الكتابة القبطية
:.:
بعد ذلك أصبحت تلك الكتابة الهجينة المنحدرة من اليونانية منحصرة في
دور العبادة المسيحية كأداة عبادة طقسية للقساوسة فحسب، وليس في أشكال العبادة
الشاملة للعامة، فلا يعرفها إلا الكهنة المسيحيين المصريين، والمتخصصين في الشأن المسيحي المصري، أو
الدارسين لتاريخ مصر إبان حكم البطالمة اليونان فقط ■