إذا
كانت المعية الإلهية للبشر لم تتحقق إلا بظهور يسوع المسيح فباطل هو الناموس والأنبياء
إذن. ولكن هذا لم يحدث! بل كانت المعية الإلهية مرافقة لجميع الأنبياء منذ آدم وحتى
المسيح وما بعده أيضًا، وليس الكتاب المقدس بغافل عن ذلك أبدًا، وما سُمّي يسوع المسيح
في تفسير النبوات بعَمانوئيل إلا لكونة خلاصًا من عند الله اقتضاه الوقت في
حينه كما اقتضى غيره من قبله وتنبه إليه من آمن به، فكان هو درة الأنبياء من بعد موسى
في سلسلة بيت إسرائيل.
ومن
مظاهر الالتفاف الجلي غير المستساغ على المعنى الكتابي اعتبار اسم "عَمانوئيل"
في حال عدم إطلاقه كاسم مباشر للمسيح، (إذ كان يسوع
هو الاسم المعهود له) هو أمر مقبول وعادي، ثم اعتباره قسرًا وصفًا خاصًا بالمسيح
فقط هو أمر بديهي! فاليهود جميعًا عهدوا الاسم "عَمانوئيل" في السفر
الاشعيائي الإنبائي، وكان ليس غريبًا أبدًا بأن يُسمي كل متيمن به ابنه دون أن يقوم
على ذلك التسمي اعتراضات تذكر أو أن يُلتفت إليها، فالاسم ليس في حد ذاته اسمًا ألوهيًا،
وإن الولادة من عذراء لهو أمر أكبر من مجرد اسم يتسمى به طفل، وتغيير الأفكار الخاطئة
والدعوة إلى الله الحق لتصحيح المسار أعظم من أن يهتموا لاسم الداع دون فعله.
معنى عمانوئيل
فعَمانوئيل
اسم صفه لكل موصوف بها من الله؛ ولا شك أن السيد المسيح هو عَمانوئيل عصره، ولكل عصر
يفتقد الله فيه شعبه وخلقه يكون له عَمانوئيل؛ فإذا كان معنى اسم "يسوع"
أي "الله يُخلّص" لم يتفرد به السيد المسيح(1) فكم
من مُخلّص لشعب الله ورد ذكره كمُخلِّص بأمر إلهي في أسفار الكتاب المقدس؟!(2) ألم
يقل النبي يعقوب: «إن كان الله معي، وحفظني في هذا الطريق الذي أنا سائر فيه...
يكون الرب لي إلهًا»؟ تك28/ 20- 21 ألم تكن المعية الإلهية متحققة في حالته ووقته بهذا
القول؟ وألم يقل الله عن صلحاء بيت إسرائيل: «أنا قلت أنكم آلهة وبني العلي كلكم،
لكنكم مثل الناس تموتون»؟ مز82/ 6-7 فقولوا لي بالله
عليكم فيما اختلف السيد المسيح عن هؤلاء!؟ لقد كان إلهًا مثلما كان سلفه من الصلحاء
آلهة بإذن الله؛ ومات مثلما يموتون.. وكان مخلّصًا وكانوا مُخلّصين، وفيه تجلت معية
الله وقدرته وكذلك هم كانت فيهم تتجسد معية الله وقدرته.
وكلمة
"عمانوئيل" هي من مقطعين [عمانو] أي (معنا) و [إيل] وتعني (الله) ووردت في
سفر إشعياء 7/
15
إقناعًا لآحاز الملك أن الله سوف يُنقذه من أعداءه، وأوردها القديس متى مرفقة بتفسيرها
"الله معنا" تعبيرًا عن استجابة الله. فهي إذن تعبر عن تضرع إلى الله لينجد
بقدرته شعبه من ضيقتهم، ولا يختلف ذلك مع القول في القرآن «لا تحزن إن الله معنا»
الذي قيل وقت الضيق والمحنة.
عمومية الاسم والآية وذكر صاحب الوصف
لم
يكن "عمانوئيل" في حالة من الحالات اسمًا خاصًا لشخص بعينه، إنما هو وصف
ينتظر دائمًا إنسانًا مطابقًا له، وفي حال نبوءة إشعياء ورد هذا الاسم للدلالة على
أن الله سيحمي بيت داود، فقد ظهرت هذه النبوءة الخلاصية في وقت عصيب كما يحدث دائمًا
في مثل هذه النبوءات التبشيرية(3)..
ثم
نأتِ على صيغة القول: «ولكن يعطيكم السيد نفسه آية» فلا ثبات عليها في
الكتاب المقدس بترجماته المُعتمدة! فمثلًا في إحداها(4) مذكورة
كالتالي: «ولكن السيد الرب نفسه يعطيكم هذه الآية» فيجب أن نفهم هذه الكلمة
"نفسه" كالتالي: (أن الله بنفسه يهبُ هذه الآية) [أو] (أن الرب
يهبُ بنفسه آية) فهو لا يهبُ نفسه بل يعطي بــنفسه. والفرق شاسع. وكلمة "نفسه"
هذه وردت لأن الملك اليهودي آحاز استكبر أن يدعو الله لخلاص أمته إش7/
10-12،
فتدخل الله برحمته المحضة لخلاص شعبه بغض النظر عن دعاء الملك أو إعراضه.. لذا فلا
يمكن الاعتمادعلى أن الرب الإله يقصد نفسه، فإن ذلك يخالف الأحداث والتاريخ والمنطق
العقلي أيضًا، إنما الصواب أنه سبحانه يقصد فعله وتدبيره الذي سيُجريه. وبالتالي فيكون
التركيز على كلمة "الله معنا" بمعناها الطبيعي أي ببركاته وفعله وقدرته
وتدبيره ماثل بيننا سبحانه وتعالى.
وكان
أن تحققت نبوءة إشعياء هذه في عهد إشعياء نفسه بجلاء بولادة الابن الموعود "ابنه"
من المرأة التي لم تكن وقت النطق بالنبوءة قد تزوجها بعد إش8/ 1-4 وتأكيد
هذا الدليل هو إعادة ذكر هذا الوصف الخلاصي "عمانوئيل" في إش8/
8
وقد ذكرته بعض ترجمات الكتاب المقدس بمعناه طبقًا لطبيعة السياق كأن نقول سوف يأتي
قريبًا زمان يقضي الله بقضاءه فيكثر الابتلاء ويُمحص المؤمنين ويهلك الأشقياء؛ كان
الله معنا...(5)
الضوء على بعض كلمات النبوءة
كما
أنه بالاطلاع على الترجمة النصية الدقيقة(6) للآية
نجد معناها كما هو معقول، فتقول: «ولكن السيد الرب نفسه يعطيكم هذه الآية» أي
أن الله يهب لنا خلاصًا من عنده. ثم بالرجوع إلى الترجمة النصية للفظةٍ هامة في هذه
الآية، والتي اعتبرها القديس متى هي "العذراء" إسقاطًا منه لمعنى
هذه النبوءة على شخص المسيح أيضًا. بينما أن الترجمة الصحيحة للكلمة هي "الصبية"،
إذن فهي (أي النبوءة) تنطبق على كل شخص صالح توافرت فيه علامات المُخلَّص لشعب الله،
ومن هذه العلامات "علامات خارجية" مثل أن تكون أمه صبية عمومًا
(أو حديثة العهد بالزواج)(7) فالصواب هو
أن تكون ترجمة نبوءة إشعياء كالتالي: «ها هي الصبية تحمل وتلد ابنًا...»
ويُذكر تحققها الذي أورده متى: «ها هي العذراء تحمل وتلد ابنًا...» لأن
الأمانة تقتضي أن نص أشعياء يجب أن يُنقل كما هو، في حين يُفهم تفسير القديس متى لنص
النبوءة على أساس واقعها المتحقق.
هل العذراء دليل خصوصية الاسم ليسوع؟
كما
وضحنا سابقًا، لم تكن صفة العذروية بحد ذاتها علامة لحلول معية الله المقصودة من
"عمانوئيل"، بل إن غاية ما وصفت به المرأة المقصودة هي أن تكون صبية،
وقد تكرر هذا الفعل الإلهي أكثر من مرة في تاريخ العهد القديم عن صبايا أخريات؛ فقط
غاية ما هنالك أن تكون الصبية المقصودة مميزة بشيء ما(8) كأن
تكون أول المؤمنات، أو جارية شابة ظُلمت فتضرعت واستُجيب لها، أو أن تكون زوجة نبي(9) أو
زوجة ملك، أو أن تكون عذراء... وبهذه الميزة تكون رمزًا لحالة قد كتبها الرب على الناس
والشعب، فحواء كانت رمزًا لأمومة النسل البشري تك4/ 25، وهاجر
كانت رمزًا لنصرة الله للأذلة والمظلومين تك16/ 11، وكانت
راحيل رمزًا لمملكة إسرائيل في حالة السبي إر31/ 15 وهكذا
أيضًا كانت مريم العذراء رمزًا فطن إليه القديس متى بأنه تعبير عن منتهى النظر الإلهي
لبيت داوود وبني إسرائيل، وأنه لن يظهر من بيت إسرائيل خلاصًا لهم بعد هذا المسيح
وسينتقل بعد ذلك الوعد إلى آخرين(10)
فخلاصة
القول أن وصف عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا لا يعني أبدًا ومطلقًا
إقنومًا إلهيًا، بل بالأحرى يعبر عن التماس بركات الوجود الإلهي واستنشاق عبير تحققه
في عمله الخلاصي المستمر منذ أن خلق الخليقة.
كما
أن هذا الوصف عمانوئيل لا يعني بالضرورة شخصًا بعينه، وبالأحرى لم تكن نبوءة
إشعياء تقصد بعمانوئيل تقصد يسوع أصلًا، إنما الحق أن القديس متى قد كيفها على
يسوع بفطنته وإحاطته بكتب الأنبياء ذلك لما رأى إمكانية إطلاقها عليه، فهو (أي المسيح)
من ناحية هو رجل صالح ومُخلِّص، ومن ناحية أخرى قد ولد من امرأة صبية مميزة بالإيمان
كصفة عامة وبالعذروية كصفة نادرة.
ثم
لا تقف فعالية هذه النبوءة الإشعيائية عند هذا الحد، بل تظل فعالة
لأنها تحمل وصف إلهي هام وهو معيته الدائمة ورعايته لجماعة المؤمنين «إن كنتم تحبونني
فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزيًا آخر ليمكث معكم إلى الأبد» يو14/ 15-16■
الحواشي
───────
(1).
الأصل العبري هو "يشوع" وسبقه في حمله يشوع بن نون ويشوع بن سيراخ وغيرهم
كثيرين.
(2).
المخلِّصون الإثنى عشر الذي أقامهم الله والوارد ذكرهم تفصيلًا في سفر القُضاة، فهؤلاء
الذين اصطلح في التقليد الكتابي على تسميتهم بالقُضاة هم في الحقيقة مخلصين.
"فالله على وجه أعم هو الذي يُخلص شعبه باختياره رجلًا يُحقق هذا الخلاص فعلًا"
[مدخل سفر القضاة – الكتاب المقدس الترجمة اليسوعية]
(3).
[مثال] تحقق دعاء وتضرع يوآحاز بن ياهو 2مل 13/ 4 في حفيده يربعام بن يوآش 2مل14/
27
(4).
الترجمة العربية المُشتركة إصدار جمعية الكتاب المُقدس – لبنان.
(5).
الحاشية على كتاب الحياة ضمن الكتاب المقدس الدراسي ص1628، وأيضًا في الحاشية الرعائية
للكتاب المقدس عن جمعية الكتاب المقدس ص839.
(6).
العهد القديم العبري، ترجمة ما بين السطور (عبري - عربي) الجامعة الإنطوانية ط1،
2007
(7).
من الواضح أن متى قد فسر كلمة "العذراء" المذكورة على اعتبارها العذراء مريم،
كما أنه من الممكن أن تُفهم كلمة عذراء على أنها إشارة إلى أمة العهد التي يخرج منها
المسيا المُخلص، ذلك لأن الصورة المستخدمة هنا (أشعياء) صورة شعرية [الكتاب المقدس
الدراسي]. والمرآة الصبية هي زوجة الملك [القراءة الرعائية للكتاب المقدس]
(8).
عن الصبية حواء قال في تك4/ 1: «وعرف آدم حواء فحبلت وولدت قايين. وقالت: "اقتنيت
رجلا من عند الرب"»، وفي تك16/ 11 ذكر الصبية هاجر: «وقال لها ملاك الرب:
"ها أنتِ حُبلى، فتلدين ابنًا وتدعين اسمه إسماعيل، لأن الرب قد سمع مذلتك"»،
وفي تك 30/ 22-23 ذكر الصبية راحيل وقال: «وسمع لها الله وفتح رحمها، فحبلت وولدت ابنا
فقالت: "قد نزع الله عاري"»... إلخ
(9).
وهذا هو الاحتمال الأبرز لتحقق النبوءة في زمنها، إذ قيل في إش8/ 3-4: «فاقتربت إلى
النبية (أي زوجته) فحبلت وولدت ابنا. فقال لي الرب...»
(10).
«فقال الله: "بل سارة امرأتك تلد لك ابنًا وتدعو اسمه إسحاق. وأقيم معه عهدًا
أبديًا لنسله من بعده. وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه. ها انا أباركه وأثمره وأكثره
كثيرًا جدًا. إثنى عشر رئيسًا يلد، وأجعله أمة كبيرة» تك17/ 19-20. ■