الثلاثاء، 27 أبريل 2021

الثالوث شرح لشريعة التوحيد

مقدمة

إن مجرد تعريف الشخص بأنه عاقل، فهذه إشارة إلى إمكانية واحتمالية أن يكون مجنونًا، ومجرد وصفه كذلك بأنه متكلم، فتلك إشارة أيضًا إلى إمكانية واحتمالية أن يكون أبكمًا. لذا فالبديهيات[1] لا تُعرَّف. وما لا يمكن أن يتصور الإله المهيمن بدونه، لا يجوز تعريفه به، لأن المعروف لا يُعرّف.

لذا، فالقول إن الله هو (العقل الأزلي) ولَد الكلمة (أي أن الكلمة أمر طبيعي ناتج عن هذا العقل)، هو تكلف على الله، فالله من صفاته التعقل والتكلم نعم، ولكنها أصول لا تؤصل. فتعريفه بأنه عاقل شيء ليس ميزة في حد ذاته، فكم من عاقل ليس مدرك لما حوله... وكذلك تعريفه بأنه متكلم ليس ميزة ذاتية أيضًا (فالمعلوم أنه كذلك) ولكن المهم هو نوعية هذا الكلام الصادر عنه وأثره.

تماما مثلما نتفق على أن الله موجود، فهو بناء على هذا الوجود لا بد أن يكون فاعلًا.

    «فهناك فرق هائل بين: "يجب أن يكون" وبين: "موجود فعلا". فإن مفهوم "يجب أن يكون" لا يوصل إلى اليقين الجازم الذي يوصل إليه مضمون: "هو موجود فعلا"، بل يبقى فيه عِرقٌ من الشك. والذي يقول عن أمرٍ ما بأنه "يجب أن يكون" على وجه التقدير والقياس، إنما يتلخص قوله في أنه لا بد من وجوده حسب تقديره هو، غير أنه لا يعرف على وجه اليقين هل هو موجود فعلا أم لا»[2]

تقديم (المُعضلات)

وحين التحدث عن الثالوث المسيحي المقدس، فقد اجتهد القديسين والقساوسة على مر القرون وحتى الآن في محاولة لتقديم تبسيط له لتستسيغه العقول، ولكن دون جدوى حقيقية، فإذا هم خرجوا من التعقيد غير المُستساغ بغية التبسيط، تراهم منغرسين في المنطق غير المقبول عن الإله! حتى يضطروا بعد ذلك إلى الرجوع والإقرار بمبدأ صعوبته على العقل البشري[3]

وبعد الإشارة إلى المُعضلة الأصلية الأولى (أي عدم جواز تعريف المُعرف) عمليًا، فإننا نجد في الثالوث معضلات يبرزها القديسين أنفسهم كمعضلات إيمانية عند المؤمنين، وذلك في أمر وجب أن تكون بساطته بديهية، وهو الألوهية! فتنتج عند المؤمنين استفسارات عقدية شائكة عن علاقة الآب بالابن[4]، ثم التطور للسؤال عن دليل وجود روح القدس، والازدواجية في حالته واعتباره بديهي الوجود![5] وهذا يجبرنا على الرجوع إلى ما قلناه في مقدمتنا (عن بداهة كون الإله عاقلًا متكلمًا. فتعريفه بأنه عاقل ومتكلم هو أمر "غير طبيعي" ويستدعي التساؤل) لأن الكلام في التصور البشري هو ناتج مرحلي متأخر عن الوجود الحي، وكذلك التعقل.. ما استدعى فكرة الانقسامات الحتمية بين أقانيم الثالوث عند البعض (وهم معذورين) ولكنهم مع ذلك اعتبروا هرطوقيين للأسف رغم عدم تقديم ما يرضي المسؤولين أنفسهم حيال ذلك ناهيك عن السائلين!

تقديم الحلول

ولا يمكننا فتح هذا الموضوع دون تقديم حلول مُستساغة قبل غلقه، وإلا فنحن مُغرضين وطالبي تصيد والإيقاع بالآخر فحسب والعياذ بالله. لذا فإن ما يمكننا تقديمه حول مبدأ التثليث في المسيحية أولًا هو تحليل ظهوره تاريخيًا (ذلك بحسب ما قدمناه أعلاه) فهو مبدأ بشري مخصوص إلى الأمم صاحبة الوثنية الصماء العاجزة (المؤلهة للنجوم والكواكب والشخصيات الأسطورية والأباطرة..) لذا احتاج مُقدمي التعاليم المسيحية إلى هذه الأمم إلى التخلي عن البديهيات الإلهية مبدئيًا، لشرح لعقلية الوثني كيف يمكن أن يكون الإله عاقلًا أولًا ثم متكلمًا بعد ذلك، (أي من حالة "يجب أن يكون" إلى حالة "كائنٌ فعلًا") فتجد في الرسائل الإنجيلية المسيحية أن القديس بولس فقط هو من تعرض إلى هذه البديهيات الإلهية بالتحليل إلى التثليث (ربما اضطرارًا بغية الوصول إلى هذا الهدف)، وقد أشار هو نفسه إلى ذلك[6]، لذا فهي شرح مخصوص، وليست شرعًا أصليًا عامًّا، ومعنى أنها شرح مخصوص أي لا يمكن تعميمه، فلا يمكن إطغاء النظرية على البديهية، وإلا فهذا يعني انقلاب الموازين المنطقية رأسًا على عقب.

دليل مدون: ولعل ما سأعرضه الآن يكون دليلًا مدونًا وإشارة جلية وواضحة لتأكيد ما ذهبنا إليه، فالمعلوم أن كلمة ثالوث هي اصطلاح مستحدث ولم يرد ولا مرة صراحة في الإنجيل، إلا أن بعض الترجمات غير المتحرية للدقة[7] أضافت شرحًا على النص[8] من عندها، أو لعلها ترجمت نصًا إنجيليًا مشروحًا[9]، فترجمت النص بشروحاته! في حين أن الوحي الإلهي يخص النص ولا يخص الشرح، فالشرح يخص من شرح ولا يمت بصلة إلى الله.

الخلاصة

الثالوث المسيحي في التوحيد إنما هو مقدَّم كشرح مخصوص لفئات معينة من الأقوام الغريبة والأمم، ولكنه ليس شرعًا أصليًا عامًا يمكن تعميمه أو إلزامه أو إطغاءه على الشرع المُعلن والموثق والمعروف في مبادئ العلاقة بين الله وخلقه، تلك المبادئ التي أعلنها الله في وصاياه.

ولهذا أكد حضرة يسوع المسيح في أكثر من موضع (تحاشيًا إلى هذا الانجراف التحليلي للبديهيات الإلهية) على عدم المُضي إلى الأمم الوثنية[10]، لعلمه بما سيترتب على ذلك من عواقب منطقية وخيمة لعدم توفر لديهم المبادئ الأولية للتصور الإلهي الأحدي المهيمن، في مقابل توفر وجود لديهم التصور الإلهي العاجز أو القاصر والمحتاج إلى التعدد لإنجاز مهامه.

إنه لا يمكن لأي منصف أن يعتبر الشرح للأصل الديني البديهي والثابت مُلزمًا إيمانيًا، رغم إمكانية اعتباره مع ذلك مقدسًا، نظرًا للاجتهاد (المخلص) المبذول فيه تجاه من أرادوا الفهم. لذا فعلى كل منصف مسيحي أن ينبذ فكرة التثليث الأقنومية، إذا كان يؤمن ببداهة بالصفات الألوهية (أي حتميتها وليست احتماليتها) وذهابه إلى تبني هذه البديهيات يجعله يعتبر فكرة الثالوث برمتها هي محض شروحات مخلصة ولكنها ليست مُلزمة دينيًا.

 

المراجع والهوامش



[1] البديهيات: هي منطقٌ أو قضيَّةٌ أو مبدأٌ يُسلَّم به دون برهان أو دلائل تسنده؛ لأنّه واضح كالمبادئ العقلية والأوليَّات والضروريَّات. يمكن أن تكون المسلمة هي العبارة، الافتراض، المقولة أو القاعدة التي تشكل أساسا للنظام الشكلي وبخلاف المبرهنات، فالمسلمات لا يمكن أن تشتق بمبادئ الاستنتاج، كما لا يمكن إثباتها عن طريق برهان شكلي - ببساطة لأنها مقدمات مفترضة - ليس هناك شيء آخر تستنتج منه منطقيًا (وإلا سيفترض تسميتها نظريات) [معجم اللغة العربية المعاصر]

[2] (مرزا غلام أحمد القادياني، البراهين الأحمدية ص197 النسخة العربية الحديثة)

[3] (عن الثالوث للقديس هيلاري أسقف بواتيه "اثناسيوس الغرب"، ترجمة دير أنطونيوس، بالبحر الأحمر، الكتاب الثالث ط2017، ص273)

[4] (انظر ص248 من كتاب "عن الثالوث" للقديس هيلاري أسقف بواتيه "اثناسيوس الغرب"، تحت عنوان "ليسا إلهين بل إله واحد" ط2017)

[5] (المرجع السابق ص266 تحت عنوان "الروح القدس لا يحتاج لدليل على وجوده")

[6] كما في رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس 3/ 2-3 حيث قال: «وَأَنَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أُكَلِّمَكُمْ كَرُوحِيِّينَ، بَلْ كَجَسَدِيِّينَ كَأَطْفَال فِي الْمَسِيحِ، سَقَيْتُكُمْ لَبَنًا لاَ طَعَامًا، لأَنَّكُمْ لَمْ تَكُونُوا بَعْدُ تَسْتَطِيعُونَ، بَلِ الآنَ أَيْضًا لاَ تَسْتَطِيعُونَ، لأَنَّكُمْ بَعْدُ جَسَدِيُّونَ»

[7] ترجمة الكتاب المقدس لكرنيليوس فانديك [1818 - 1895]

[8] في الإصحاح الخامس من رسالة يوحنا الأولى تشذ ترجمة فانديك بإيراد هذه العبارة (فَإِنَّ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ فِي السَّمَاءِ هُمْ ثَلاَثَةٌ: الآبُ، وَالْكَلِمَةُ، وَالرُّوحُ الْقُدُسُ. وَهؤُلاَءِ الثَّلاَثَةُ هُمْ وَاحِدٌ) وهي بعد العدد 6 من الأصحاح.

[9] تشير الترجمة العربية المشتركة للكتاب المقدس إلى هذه الإضافة ─التي أوردها فانديك في ترجمته─ في حاشية الإصحاح 5 من رسالة يوحنا الأولى بالقول: "هذه الإضافة وردت في بعض المخطوطات اللاتينية القديمة"؛ وهذا يعني أن الإضافة ما هي إلا شرح للنص، فإن أكثر المخطوطات الأخرى تخلو منها، فتكون إذن شرحًا مضافًا وليست نصًا أصليًا.

[10] كما في مت 10/ 5 «هؤُلاَءِ الاثْنَا عَشَرَ أَرْسَلَهُمْ يَسُوعُ وَأَوْصَاهُمْ قَائِلاً: "إِلَى طَرِيقِ أُمَمٍ لاَ تَمْضُوا، وَإِلَى مَدِينَةٍ لِلسَّامِرِيِّينَ لاَ تَدْخُلُوا. بَلِ اذْهَبُوا بِالْحَرِيِّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ"»

ليست هناك تعليقات: