لقد أخبرنا الله عز وجل
في محكم آياته الإنبائية بأنه تعالى قد مَنَّ على العالم بأن أرسل إليه هُدىً
متجسدًا في رجل يجرهم من طريق الهُوَّة
ويجعلهم في مقام الصفوة رحمة من الله على خلقه فقال تعالى: {إِنَّا
أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى
فِرْعَوْنَ رَسُولًا}(المزمل: 16) فهو رب العالمين الرحمن.. ولأن فَقدُ الدنيا
لعنصر
التوحيد الإلهي هو موذن بخرابها فلا عجب أن يُعطي الله رب العالمين وقت
الحاجة كما عُهد عنه سبحانه عطاءه بلا سابق طلب ما يضمن إحياء التوحيد الإلهي في
قلوب الخلق بعد أن تقوَّض وضَعُف.. فتوحيد الله هو المسار الفطري الوحيد لسلامة
الدنيا والبشرية من تشابكات الشرك المقيت الذي ينبني عليه بالضرورة مصالح فئوية
فاسدة وضارة ومفسدة لعموم المجتمع والناس..


الإنباء الأول،
والانتظار
لكن هناك طُرق لرأب ذلك
الصدع المتوغل في جسد حاضرنا المُعاصر هدانا الله إليها؛ منها مثلًا مطابقة جزء من
التاريخ المُتحقق المُوثّق والذي لا زال تأثيره فينا ماثلًا إلى الآن، على جزء آخر
من التاريخ الذي قد يُرى بعين المُلحد بمظهر الأسطورة الضاربة في القدم؛ فإن وُجد
تحققًا فما الأسطورة إلا نبوءة وما تحققها إلا واجب الأخذ به والاتباع، فذلك منهجٌ
علمي تجريبي قد يُرضي من لا يؤمن بالله رب العالمين وبدينه.
فها هو تاريخ الإسلام
بين أيدينا يصدح بما أتى به النبي الأعظم محمد ﷺ منذ بدء بعثته الشريفة في
العالمين وحتى وفاته ﷺ، كما يتوفر لدينا من كتب الأولين السابقين أسفار الديانتين
اليهودية والمسيحية المقدسة وكما استقرت عليه مدونات الذين كتبوا وشاركوا في
تكوينها ووصلت إلينا.. وفي هذه الأسفار المُقدسة نجد من الشهير وجوده من الأنباء
ما قد أنبأ به نبي الله موسى قومه حول أخبار مستقبلهم الديني وما بعد تميزهم الديني
ماذا سيحدث أيضًا، فقدّم نبأين متتابعين من الأهمية بمكان أن نُسجّلَهم هنا
ونُفصِّل فيهم تفصيلًا بالمُختصر المُفيد. إذ قد دُوِّن في سفر التثنية «يُقِيمُ
لَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَبِيًّا مِنْ وَسَطِكَ مِنْ إِخْوَتِكَ مِثْلِي. لَهُ
تَسْمَعُونَ» (التثنية 18 : 15) وفي هذا النص من سفر التثنية المنسوب إلى موسى يوصي نبي
الله موسى عليه السلام قومه ومن سيأتي بعده بالوصايا الأخيرة قبل رحيله، فيطمئنهم
أولًا على استمرار الخلافة النبوية فيهم، أي في بيت إسرائيل، فيقول لهم أن النبوة
ستبقى فيهم وفي بيتهم إلى ما شاء الله أن تكون (وقد تحقق ذلك من خلال خلفاء حضرة
النبي الإسرائيلي موسى عليه السلام بمظهر سلسلة من الأنبياء الكرام من بعده وصولًا
إلى آخرهم حضرة نبي الله عيسى عليه السلام) يقول الله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ
أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ
الْعَالَمِينَ}(المائدة: 21) ويقول: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ
وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ
وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} (البقرة: 88) ثم بعد ذلك يكون
مُحتَّمٌ عليهم ─بحسب الوصية الإلهية ─فيما بعد وصيته لقومه
أن يمتثلوا لمن يُقام نبيًا من خارج بيتهم (بيت يعقوب بن إسحق عليهما السلام) إلى
آخر غير بعيد عنهم (بيت إخوتهم، أي بيت إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام) وستكون
علامته أنه "مثل موسى" فقيل: «أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيًّا مِنْ وَسَطِ
إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ، وَأَجْعَلُ كَلاَمِي فِي فَمِهِ، فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ
مَا أُوصِيهِ بِهِ» (التثنية 18 : 18) فإن المماثلة المقصودة هنا إذ قيل "مثلك" إنما
هي محصورة في كون هذا النبي المُنتظر سيكون مثل موسى "مُكلمًا" من الله
عز وجل، أي حاملًا لشريعة، ناموسًا إلهيًا كما حُمِّلَ موسى كذلك.
تحقق النبوءات وإخبار
السيرة


إذن، فلقد اجتمعت عند
ورقة بن نوفل كافة الأدلة الخارجية والمطابقة للنبوءات الكتابية الثابتة لديه، فأضافها
تلقائيًا على ذلك العنصر الأجلى والأشهر في شخص محمد حينئذ وهو أنه كان معروفًا
ومشهورًا بصفتي الصدق والأمانة، فاعتبر ذلك العنصر الهام للتصديق دليلًا داخليًا
في ذات محمد على كونه هو هو مناط تحقق النبوءة التوراتية عن النبي المُنتظر.
إنه ﷺ الشمس وضحاها



قد تنكر العين ضوء
الشمس من رمدٍ ◬ ويُنكر الفم طعم الماء من سقمِ
(قصيدة
البردة للإمام البوصيري)
وكما ذكرنا قبلًا
وقدّمنا طريق تطبيق التاريخ الموثق أي السيرة النبوية على النصوص القديمة من
التوراة والتي هي عند البعض أسطورية، فخرجنا بنتيجة مفادها تأكيد طرفي التاريخ على
حقيقة مؤكده هي أن ما قيل بطريق الإنباء قد تحقق فيمن ادعى فكان لزامًا على
المتتبع لذلك ضرورة الأخذ به والإيمان والاتباع إن كان صادق النية مخلص الطوية.
كما أن هناك طريق آخر
لإثبات ذلك أيضًا، هو اختبار تحقق جزء من إنباء التوراة في منتصف المدة وإعادة
التأكيد على بقاء جزء آخر لم يأت وقت تحققه بعد، فيكون ذلك دليلًا إضافيًا داعمًا
على صدق النبأ الأول ومصداقية للنبأ الأخير حين تحققه.
تأكيدات النبأ الأول
واستمرار الانتظار

ولقد أكدت الأسفار
الكتابية اللاحقة بعد رحيل حضرة المسيح الناصري عليه السلام والتي اعتمدها
المسيحيون ككتب مُقدسة على هاتين النبوءتين التوراتيتين بالفصل الواضح بينهما
واعتبرت أن الأولى قد تحققت في المسيح الناصري عليه السلام وأن الثانية فإن موعد
انتظار تحققها قد بدأ.
فأما النبوءة الأولى (التثنة 18/ 15: 16) والتي تقول: «يقيم لك الرب إلهك نبيا من وسطك من إخوتك مثلي. له تسمعون» فقد ورد ذكر تحققها في (أعمال الرسل 3/ 18) حيث قيل على لسان القديس بطرس: «وأما الله فما سبق وأنبأ به بأفواه جميع أنبيائه، أن يتألم المسيح، قد تممه هكذا» وبالفعل فقد حصل وقد تألم حضرة المسيح وتم كل شيء بخصوصه عليه السلام في وقته، وانتهى أمر النبوءة المتعلقة بحضرته "هكذا" أي كما هو مكتوب ومُعاين. ولو لاحظنا كلمة "مثلي" لفهمناها بأنه يقول بأنه مني ويقول قولي.
وأما النبوءة الثانية (التثنية 18/ 17: 19) القائلة: «أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به. ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه» وقد ورد ذكرها بصيغة الانتظار بعد ذكر تحقق الأولى مباشرة في (أعمال الرسل 3/ 20، 21) حيث قيل تعقيبًا: «فتوبوا وارجعوا لتمحى خطاياكم، لكي تأتي أوقات الفرج من وجه الرب. وَيُرْسِلَ يسوع المسيح الْمُبَشَّرَ به لكم قبل. الذي ينبغي أن السماء تقبله، إلى أزمنة رد كل شيء» فبعد أن تحققت (النبوءة الأولى وانتهت بالمسيح وحصل ما حصل مع حضرته فلم يبق بذلك أمام الناس إلا طريق أخير للنجاة المُبَشَر به من قبل، ذلك بعد العناد والعصيان والعدوان على مبعوثي الله وقد أعلن القديس بطرس عن هذه النبوءة بعلمه السابق بها، فبعد ما ارتكب الناس من ظلم وفساد في حق مسيح الله قال لهم "توبوا وارجعوا.. لكي تأتي أوقات الفرج" أي أنها لم تكن قد أتت بعد، والجميع كانوا ينتظرونها.
والغريب أن بولس أيضًا
قد نشر عن هاتين النبوءتين وذكر تحقق أولاهما بينما أكدّ أن العالم في وقته حينئذ
قد أصبح في طور انتظار تحقق الثانية فقال: «فإذ ذاك كان يجب أن يتألم مرارًا كثيرة
منذ تأسيس العالم، ولكنه الآن قد أُظهر مرة عند انقضاء الدهور ليبطل الخطية بذبيحة
نفسه» (الرسالة إلى العبرانيين 9/ 26) فهذا إذًا حديثه عن المسيح ورحلته وآلامه
ومعاناته ثم موته، وتحقق النبوءة الأولى بخصوصه؛ ثم يذكر استحالة عودته مرة أخرى
فيقول: «وكما وضع للناس أن يموتوا مرة ثم بعد ذلك الدينونة، هكذا المسيح أيضًا.
بعدما قُدِّم مرة لكي يحمل خطايا كثيرين، سيظهر ثانية بلا خطية للخلاص للذين
ينتظرونه» (الرسالة إلى العبرانيين 9/ 27، 28) ولأن الذي يموت لا يعود بنص كلام
بولس فإن الآتي المُنتظر يكون شخص آخر للخلاص للذين ينتظرونه. وقد كان محمد ﷺ بناء
على استحقاق فيما سبق ذكره هو شمس الهدى التي سطعت لتجيح الظلام وتنشر النهار
والخير والحمد لله.
شمس الهدى طلعت لنا من
مكة ◬ عين الندى نبعت لنا بِحِراء
(من قصيدة
«يامن أحاط الخلق بالآلاء» لحضرة مرزا غلام أحمد عليه السلام)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق