ذكرنا في حلقة سابقة* [4─10] من حلقاتنا العشر هذه أن الله عز وجل
طمأن نبيه عيسى ابن مريم بأنه سينجيه من المصير الملعون الذي أراده وسعيَّ له
أعداءه من اليهود، فبشره بوفاة طبيعية سالمًا، معززًا مكرمًا مرفوع القدر. والآن
في حلقتنا هذه نجد أن الله عز وجل ينقلنا إلى إخبار من زاوية أخرى، وكأن السابق
ذكره كان إنباءًا خاصًا للمسيح وبشرى له، وأصبح مما عُرف عنه وعُرف به، أما اللاحق
وسنذكره هنا الآن فكأنه إخبار عام للناس كافة. فيقول عز من قائل للذين يريدون
تفاصيل الأمر عن من أرادوا كتم دعوة نبيه، أنهم ما قتلوه ولا تخلصوا منه كما
تمنوا، ولا شُفي غليلهم بأن صلبوه ليُلعن ويتبدد أمره، ولكن اختلط عليهم أمر موته
من عدمه أصلًا، بل في الحقيقة نجا وحصل معه ما أوردنا في الحلقة سالفة الذكر.
فيقول الله هنا جامعًا لحالٍ وقع في أكثر من عصر ─بداية من عصر المسيح نفسه مرورًا بعصر محمد ﷺ وحتى الآن وفيما بعد─ :
فبعد النجاة، تلك الرحمة العظمى من الله إلى نبيه وإلى خلقه، يخبر الله هنا بالأحداث التي وقعت في أرض مجد المسيح الناصري، فيقول الله بوضوح تام «وإن من أهل الكتاب» أي من بعض أهل الكتاب الموجودين
آنذاك، والبعضية هنا ليست مقتصرة على فرد أو اثنان أو ثلاثة أو عشرة أو مائة، لكن
هذه البعضية التي أشار لها القرآن العظيم هنا إنما تعني معظم القبائل الإسرائيليةالعشر التي استوطنت بلاد المشرق، خلافًا للسبطين الإسرائيليين الذين رفضوه عليهالسلام والقاطنين في أرض فلسطين.
وفي هذا الشأن قال حضرة المسيح الموعود عليه السلام في كتابه العظيم إزالة الأوهام من الخزائن الروحانية ما يلي:
فبحسب هذا الكلام تكون لهذه الآية اتجاهين لغويين:
فقوله تعالى «إلا ليؤمنن به» تشير
إلى كون «إنْ» البادئة في هذه الآية هي بحسب
القواعد النحوية تكون [إنْ المخففة من الثقيلة] ودليلها؛ اللام
في الخبر «ليؤمنن» وهي المعروفة باللام
الفارقة، أي التي تفرق بين إنْ النافية
وبين إنْ المخففة من الثقيلة.
قال ابن هشام: "وحيث وجدت إنْ وبعدها اللام المفتوحة... فاحكم عليها بأنّ أصلها التشديد". [مغني اللبيب عن كتب الأعاريب،ابن هشام، دار الفكر بدمشق 1964، ط1،ص21]
فيكون المعنى في هذه الآية، أنها آية خبرية عما حصل، فتخبرنا وأهل
الكتاب بأن المسيح قبل حادث الصليب، وبعد نجاته من مؤامرة الصلب، تلقى أولًا نبوءة
بخصوص حياته ووفاته سالمًا وهي «إني متوفيك»؛
ثم تلقى ثانيًا نبوءة بخصوص مجد انتصاره عليه السلام وهي «ورافعك»؛
ثم يخبرنا الله بتفاصيل ذلك المجد في عصر المسيح؛ فيقول ما نحن بصدده في هذه الآية
الآن.. كما يضع أهل الكتاب من يهود ومسيحيين المعاصرين لمحمد ﷺ ومن بعده حتى الآن أمام خبر لا يمكن رده من قِبلهم بدلائل تأكيدية بشكل جازم.
فأهمية هذه الإشارة اللغوية هو تصحيح الاعتقاد حول هذه الآية، بعدما
كان مبني فحسب على أنَّ «إنْ» في صدر الآية
نافية دون النظر للقرائن الموجودة في الآية مع هذا النفي، وبالتالي يترتب على ذلك
وجوب رجوع عيسى ابن مريم (الناصري) بنفسه في آخر الزمان ليؤمن به كافة أهل الكتاب قسرًا
وعن بكرة أبيهم دون تخلف واحد منهم ─وهذا مناف للمنطق الطبيعي فضلًا عن مخالفته
للنص القرآني─ ثم يموت! وهذا خطأ، وصوابه أولًا أنَّ «إنْ»
في صدر الآية بين أيدينا الآن هي أيضًا [إن المخففة من الثقيلة] كما
قدمنا، حيث بعد نبوءة الرفعة للمسيح يقدم الله تفصيلها، فيقول وإنه آمن به حين
ذاك من أهل الكتاب كذا قبل موته عليه السلام وقتها وذلك إتمامًا للسرد القصصي القرآني، وليس من تفسير لاكتفاء من جعل «إن» في صدر الآية نافية فحسب دون الالتفات للقرائن معها،
إلا أنه تأثر بالتفسيرات المسيحية وبتصوراتها في رجوع المسيح ليجبر الأمم على
الخضوع له وإدخالهم قسرًا في دين الله ─بحسب سفر الرؤيا─ فسيطرت عليه، فصدّرها بدوره كأنها الحق
المُطلق‼
إذًا، فتلك أولًا إشارة قطعية الدلالة على موت المسيح عيسى ابن مريم، وذلك
في حال كون «إنْ» في الآية هي المخففة من
الثقيلة، بتحقق إيمان جزء كبير من أهل الكتاب به قبل موته آنذاك تحقيقًا لنبوءة الرفع.
أما إذا افترضنا كونها نافية وذلك لالتحاق «إلا» بها، لِذكر ابن هشام في نفس المرجع السابق كذلك: "وقول بعضهم: لا تأتي إن النافية إلا وبعدها إلا" لذا فنحن أمام «إنْ» بمعنى (ما) النافية أيضًا، ولكن يجب مراعاة الفعل المضارع «ليؤمنن» وعدم الاكتفاء بالنفي في صدر الآية فحسب لكي لا يتحول المعنى إلى الحصر مع الجبر. وهذا ما أشار إليه حضرة المسيح الموعود في الفقرة الثانية من المقتبس الفائت. فهذه الكلمة كفعل مضارع «ليؤمنن» تفيد الحال والاستقبال، فالإيمان به عليه السلام حاصل لا محالة قبل موته حينذاك مصداقًا لقول الله تعالى: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» [المجادلة] وقوله «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ* وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ» [الصافات] فإنه ما دامت الكلمة الإلهية من الله للعبد المرسل، فهي واقعة ومتحققة حتمًا في حياة هذا العبد، ثم تكون غلبة الأتباع فيما بعد كاستمرار للنصرة.
أما إذا اعتبرنا كالمفسرين التقليديين كون «إنْ» نافية
فحسب متجاهلين ما هو خلاف ذلك وغافلين عن مضمون قوله: «ليؤمنن» فنحن نتعرض لخمسة
أخطاء شنيعة تسبب اختلال في المعنى والسياق:
أولًا إذا
كانت «إنْ» نافية بمعنى (ما) دون الالتفات
لمعنى قرينة المضارعة في قوله «ليؤمنن» فذلك يعطي
معنى يلغي سنة الله في الخلق والتي ذكرها في قرآنه، وأشار لها الحديث النبوي.
ثانيًا إذا
كانت «إنْ» نافية، دون النظر للقرينة،
لنسخت عديد من
الآيات القرآنية مثل «لا إكراه في الدين»
وغيرها، ولا تتوقف المشكلة عند تلك النقطة التي قد تكون مستساغة عند البعض ─أقصد
أمر النسخ في القرآن─ بل إن الموضوع يتطور ليكون أكبر من ذلك، فمدعي مجيء عيسى
الناصري بشخصه آخر الزمان ليحكم بشريعة محمد، يعطونه هنا القضيب (الشرعي) ليهشم به
شريعة محمد ﷺ ويبدل فيها‼
ثالثًا إذا
كانت «إنْ» نافية دون اعتبار القرينة، لأصبح
معنى الآية كليًا فيه التباس، فمدعي عودة المسيح الناصري آخر الزمان يقولون بأنه
سيأتي قبل اندلاع القيامة ببضعة سنوات أو لعلها أيام، وفي نفس الوقت سوف يؤمن به جميع
الكتابيين جبرًا حسب فهمهم السطحي والمغلوط للآية، ثم وفي ذات الوقت سيشهد
عليهم المسيح في يوم القيامة ولن يشهد لهم‼
رابعًا إذا
كانت «إنْ» نافية فحسب لأصبح فهم الآية
القرآنية بصورتها هذه إسرائيلي محض! نعم، فمن اطلع على قصص العهد القديم للاحظ أن
كاتبه اهتم قصدًا بحياة بني إسرائيل حصرًا وأنهم أسياد العالم وشعب الله المختار والوحيد،
في حين أهمل كاتبه عمدًا كل شعوب المعمورة وأراضي الأمم الأخرى ونبذها! ويأتي المسلم على
هذه الآية ويفهمها بهذا الفهم العنصري والمسيحي، فيحصر إيمان أهل الكتاب فحسب
بالمسيح في آخر الزمان من دون كل مجموع بني آدم من ذوي الأديان الأخرى أو حتى
معدومي الأديان وكأنهم لا علاقة لهم برب هذا المسيح ولا يعنيهم كل ما يحصل من أحداث
في آخر الزمان!
خامسًا إذا
كانت «إنْ» نافية فحسب، وبدون قرينة الفعل
المضارع في «ليؤمنن» لالتبس الشكل اللغوي
للآية، وأصبح لا يدل على معنى مستقيم لها، كما تقدم وذكرنا.
بقيَّ لنا الآن أن نشير إلى قوله تعالى: «قبل
موته» على الرغم من قوله تعالى في أماكن أخرى من قبل: «إني متوفيك»، فلمَ قال: «قبل
موته» ولم يقل (قبل وفاته)؟!
ولقد أشرنا إلى عكس هذا الإشكال في موضوع الحلقة [4─10] حين ذكرنا
لماذا قال تعالى: «إني متوفيك» ولم يقل (إني
مميتك)؟ فذكرنا ما خلاصته "فمتوفيك هنا هي كلمة قيلت أثناء أفاعيل المكر العدواني ضد مسيح الله، فهي = استجابة الله لدعاء نبيه وطمأنته إياه، وإخباره هو بتلك الاستجابة" وكل ذلك في نبوءة اختزلها القرآن العظيم في
كلمة «إني متوفيك».
والآن وفي حلقتنا هذه نجد أن الله عز وجل ينقلنا إلى إخبار من زاوية
أخرى، وكأن السابق ذكره كان إخبارًا خاصًا للمسيح، وأصبح مما عُرف عنه وعرف به
فقال مخبرًا ومبشرًا إياه: «إني متوفيك» أما
الآن فهو إخبار عام للناس كافة، فيقول عز من قائل للذين يريدون تفاصيل الأمر عن من
أرادوا كتم دعوة نبيه، أنهم ما قتلوه ولا تخلصوا منه كما تمنوا، ولا شفوا غليلهم بأن
صلبوه ليُلعن ويتبدد أمره، ولكن اختلط عليهم أمر زهوق روحه من عدمه، بل في الحقيقة
نجا وآمن به كثير من قومه وبرز نجمه عليه السلام وعلا، وكل ذلك كان قد تم قبل
انقضاء حياته عليه السلام بالموت المُقدر له طبيعيًا والذي أنبأه الله بوقته في
بشارة «إني متوفيك».
إذن فقوله: «قبل موته» مقصود بها
إخبارنا نحن، أما قوله «إني متوفيك» فالمقصود
بها استجابة دعاء المسيح وإنباءه ببشارة النجاة وإتمام المهمة والموت طبيعًا في النهاية
بسلام.
:.